جماعية الخطبة عبد الحق معزوز

يشهد هذا العصر زخما هائلا من الأفكار والرؤى المتناقضة التي تحاول كل منها استمالة الرعاع وتجنيد الأتباع، وقليل هم القادرون على تمييز الطيب من الخبيث، والسلامة من لوثات الفكر الضال، فصار لزاما حضور خطباء الجمعة في ساحة الصراع الفكري والحوار الثقافي الذي تعج به الساحة لعرض منهج الإسلام، وبيان تصورات علمائه، والرد على الشبهات الحائمة حوله، بأسلوب الجدل الحسن لفتح مغاليق العقول وبسط نفوذ الحجج.

وهذه ضرورة العصر وواجب الساعة، إذ القوى الإعلامية متحالفة ومتضافرة ومتكاتفة، تجمعها قناة الصد عن سبيل الله. فلم يعد ثمة بد من أن ينتفض دعاة الخير وأعلامهم للمواجهة الجماعية والمؤسساتية بما يضمن تنوع الأساليب، وشمولية الرؤية، وتكامل المعالجة لتفنيد الشبه والأباطيل ودحض الافتراءات والأقاويل التي غدت أسوارا عصية أمام الاختراق الدعوي المأمول.

لقد غدا العمل الدعوي الجماعي دعوة ملحة لتحقيق التكامل في النظر إلى القضايا وتمحيص الأفكار وتقليبها على كل الوجوه وفهم ملابساتها واختيار أنجع السبل لتحليلها وعلاجها، وهذا ما ينبغي أن يستشعره كل متصدر لأحسن القول  -الدعوة إلى الله- خطيبا كان أم واعظا، أديبا كان أم مفكرا، مثقفا كان أم عالما مجتهدا… فيبحث عمن يصحبه في سفره هذا، فيصدق قوله، ويشد أزره، ويشركه في أمره، فقد سأل موسى عليه السلام ربه أن يرسل معه أخاه هارون وزيرا، وبعث ربنا إلى أهل قرية رسولين فكذبوهما فعزز بثالث، وجعل لمحمد أصحابا منه يستقون، وبهديه يقتدون، ولدعوته ينشرون، فعم الخير وجم النفع، إذ مبدأ التعاون على الخير والبر والتقوى أصل شرعي دلت عليه نصوص الشريعة صراحة وتلميحا، عبارة وإشارة، ولا أخير من إعلاء كلمة الله والدعوة إلى دين الله.

إنه إن يكن من أمر أولوي في هذا العصر يعنى به الخطباء والدعاة فهو توحيد الصف وجمع الكلمة وإذابة تراكمات التعصب وحظوظ النفس والاستعلاء بالأتباع، وصهر ذلك كله في بوتقة المصلحة العامة للأمة، وهذا ولا شك يحتاج تربية وتزكية، ومرابطة ومجاهدة للنفس الجسورة والأهواء الكسورة التي تعمي البصر والبصيرة، ولابد أن يقف الكل وقفة مراجعة ومحاسبة لنفسه أولا فيحملها على الاعتراف بالتقصير، ولعقله ثانيا فيحمله على الإقرار بالقصور، فيشمر عن ساعد الجد لينهض من ضحالة الخبرة وضعف التأسيس العلمي، فيرتقي في مدارج السلوك ومراتب التحصيل ومنازل التجريب والتكوين، ولن يكون ذلك إلا بالمران والدربة وطول الممارسة تحت إشراف المؤهلين -وهم الورثة الأجلاء لسيد الأنبياء- .

إننا بحاجة -نحن معتلي المنابر-  أن نفقه واقعنا وننهض بأنفسنا  -أولا-  تربويا وعلميا وعمليا، لنكون في مستوى الحرب الشعواء التي نخوضها في ساحة الحياة اليومية مع مؤسسات وهيئات، وأحزاب وجماعات، وقنوات وجمعيات، أبى أصحابها وأربابها إلا الكيد للإسلام وأهله، بالصوت والصورة، والكلمة المقروءة والمسموعة… ولن ننجح في مهمتنا هذه ما لم نستشعر أن جماعية الخطبة ووحدة الخطباء والخطاب ليس نافلة أو سنة يمارسها من يشاء على سبيل التطوع والندب، بل فريضة محتمة وواجب لازم يجب أن يسعى كل خطيب إلى تحقيقه، وغاية أساس لا تخفى على ذي لب حكيم ونظر سليم، ومقصد شرعي لتحقيق القوة والتمكين للكلمة التي هي سلاح الصلاح وسبيل الإصلاح، فتؤتي أكلها كل جمعة بإذن ربها، وتثمر تغييرا قصده أئمة المنابر امتثالا لأمر رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *