وهمية الصراع بين العلم والدين في البيئة الإسلامية -الحلقة السادسة- أبو الفضل حسن فاضلي

تضمن الإسلامُ في جانب الإعجاز العِلمي حقائقَ علمية لم يدركْها المسلمون في القرون الأولى، فيما كشفتْ عنها العلومُ الحديثة بصورة تكشِف عن التطابُق التام بين حقائقه وبيْن النتائج العِلمية الحديثة، الأمر الذي بَهَر المنصِفين من علماء الغرْب، فاستسلموا لحقيقتِه وآمنوا به، بناءً على أنَّ كثيرًا مِن “النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، التي تُشير إلى حقائقَ عِلميَّة لم تكن معروفةً للناس وقتَ نزول القرآن، وكشفتِ العلوم الحديثة عن صحَّتها؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ: 6]، وقدْ صنَّف العالِم الفَرنسي “موريس بوكاي” كتابًا في المقارنة بين الكُتب المقدَّسة وبيْن العلم الحديث، فخرَج بنتيجةٍ مذهِلة مسكتة؛ إذ كشَف عن التناقضات الكثيرة بيْن نصوص التوراة والإنجيل، وبيْن الكشوفات العلميَّة الحديثة، الأمر الذي لا يوجد في آياتِ القرآن الكريم، بل العكس تمامًا؛ فقد ذهل بمدى التوافُق والتناسق بين الحقائق التي أشار إليها القرآنُ الكريم، وبيْن ما توصَّل إليه العلماءُ في جميع العلوم التجريبيَّة”[1].

ولهذا الغرَض دعا القرآنُ إلى استعمال العقْل بالتفكير، في غير ما موضِع، وذلك بعدَ أن هيَّأ له المساحة التي يمارس فيها هذا التفكير، ووضع له الحدود التي لا يَنبغي أن يتجاوزها، ووجَّهه إلى الضوابط التي يمارس بها تفكيرَه، وأعفاه مِن الموضوعات التي لا يُطيق الخوض فيها، وحتى إنْ فعل، سيظل حائرًا في بحْرها دون التوصُّل إلى الغاية والنتيجة التي قصَدها مِن تفكيره وبحثه هذا.
فـ”دعوة القرآن إلى استخدامِ الإنسان لملكاتِ تفكيره أمرٌ صريح لا يحتاج إلى تأويل، فالعقل مِن مقاصد الشرع، ومِن وظائف العقْل والتفكير في منظورِ الإسلام، أنَّه قضى على الخُرافات، وأبْطَل الكهانة والشعوذة، وركَّز على المسؤوليَّة الفردية كتركيزِه على المسؤولية الجماعية، وجعل الأمن على العقل مِن المقاصِد الضروريَّة، ووَفْقَ ذلك كفَل الإسلام المناخَ للعقل والحقل الخصب؛ ليتأمل ويعي ويفكِّر ويفهم… ووظيفة العقْل في الإسلام هي أساسُ معنى الفِكر الحر والتأمُّل في الكون، وكان للعقل أو للعقلية الإسلاميَّة أساس صياغة الحضارة الإسلاميَّة، وتأكيد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13]، فإنها تُشير إلى ممارسة الإنسان لوظيفةِ عقْله، ومزاولة نشاطِه المادي والرُّوحي.
والتفكير في الكون وما خلَق الله تعالى من نِعم، أمرٌ جوهري مقصود، فلا بدَّ للإنسان أن يمارسَ دورَه ومسؤوليته، والمقياس في ذلك هو العقلُ والتفكير، فلا يَنبغي أن يبقى الإنسان مكتوفَ اليدين، فعليه التدبُّر والتفكير باستخدام العقْل، وألاَّ يقِف من الكون موقفَ اللامبالاة، فيحسن تأمُّله ويبْحث فيه ليستفيدَ منه، والاستفادة مِن هذه المسخَّرات في الكون لا تكون إلا بالعِلم والدِّراسة، والنَّظَر والتأمُّل، وكلُّها وسائل للعقل”[2].
وما هذا إلا دعوة منه -أي: القرآن- إلى النظرِ في حقيقة الوجود، باستخدام النَّظَر الحِسي والحواس، فعليها يقَع ثقلُ البحث والتأمُّل والتجريب، فبعبارات صريحة: دعا “القرآن الناسَ إلى التبصُّر بحقيقة وجودِهم وارتباطاتهم الكونية عن طريق (النظر الحِسي) إلى ما حولهم، ابتداءً مِن مواضع أقدامهم، وانتهاءً بآفاق النَّفْس والكون… وأعطى (للحواس) مسؤوليتَها الكُبرى عن كلِّ خُطوة يخطوها الإنسان المسلِم في مجال البحْث والنظر والتأمُّل والمعرِفة والتجريب؛ فقال له: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء: 36]، (و) إلى خلْقه: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ [الطارق: 5]”[3].
فلمَّا استجاب المسلمون لهذه الدَّعوة، ونظروا إلى الكون ومباحِث الطبيعة، وفقًا للمنهج الذي حدَّده، وضمن المساحات التي بيَّنها، كانتْ نتيجة ذلك أنْ نبغ في الإسلام “عظماء جمعوا بين الحِكمة والشريعة، ونظَّموا بين الحديث والرياضة، وإنَّ أكبر فيلسوف عربي اشتهر اسمه في أوروبا هو القاضي ابن رشد، وقد كان مِن أكابر الفقهاء”[4].
وهذا الأمرُ في مقابل الجمود الذي عاشَه النصارى وبعضُ المسلمين، والذي يرفُض -بل يحارب- كلَّ علم لا يعتدُّ فيه بالكتاب والسُّنة، فأغْفل أن باقي العلوم الأخرى، وإن لم تكن دِينيَّة بشكل مباشر، فهي دِينيَّة من حيث النتيجة، ما دامتْ تقوم على المبادئ الإسلامية وأُسس الكتاب والسُّنة، فالحقيقة “أنَّ هؤلاء الجامدين هم الذين لا تأتلِف عقائدُهم مع المدنيَّة، وهم الذين يحولون دون الرُّقي العَصْري، والإسلام بَراءٌ مِن جماداتهم هذه. إنَّ الإسلام هو مِن أصله ثورةٌ على القديم الفاسد، وجبٌّ للماضي القبيح، وقطعٌ لكل العلائق مع غير الحقائق”[5].
وهذا الإسلام الذي يظنُّه الجامِدون لم يأتِ لبناء الحضارة ومسايرة التمدُّن وصناعة التقدُّم، ويعتقد فيه المتغرِّبون أنه لا يناسب الإنسان العصري، ولا يفتح الآفاقَ أمام عقل الإنسان لتطوير علومه، وتنمية قُدراته التقنية هو الذي حوَّل العرَب مِن مجرَّد قبائل تعيش على هامش الحضارة، إلى أمَّة قادتِ العالَمَ وأسعدته لقرون طويلة، فبعد أنْ كان الإنسان العربي “مغلَّف القلْب والعقل، انفتح له طريقُ الإيمان والعمل، فحَكَم واستنتج، وشارَك الأمم في معلوماتها، وأخَذ مِن العلم والمعرفة ما مزَج به ما عندَه مِن حِكمة وأدب، وعِلم وتاريخ، فكوَّن بذلك مجدًا عربيًّا، انصبَّتْ فيه كلُّ جداول الأمم العريقة في العِلم والحضارة”[6].
فانظرْ إلى فضْل الإسلام على الإنسان العربي خاصَّة، وعلى بني البشر عامَّة، بل حتى على الحيوان والطبيعة، والأدلَّة الصريحة في الرِّفْق بالحيوان ومعاملة الطبيعة أكثرُ من أن تُحصَى، فكل أسباب السعادة والارْتِقاء التي عرفتها “كانتْ عائدةً في مجملها إلى الدِّيانة الإسلامية، التي كانتْ قد ظهرت جديدًا في الجزيرة العربية، فدان بها قبائلُ العرب، وتحوَّلوا بهدايتها من الفُرْقة إلى الوحدة، ومِن الجاهلية إلى المدنيَّة، ومن القسوة إلى الرحمة، ومِن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحِد الأحد، وتبدَّلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة، صيَّرتهم إلى ما صاروا إليه؛ مِن عزَّة ومَنَعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نِصفَ كرة الأرض في نِصف قرن”[7].
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- فقه السياسة الشرعية، ص:16.
2- الفكر الإسلامي في مواجهة الحضارة الغربية، 1/306.
3- تهافت العلمانية، ص:30.
4- لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ ص:117.
5- نفسه، ص:113.
6- الإسلام دين ودولة ونظام، ص:146.
7- لماذا تأخر المسلمون؟ ص:41.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *