الأمريكيون الآن يمرون بمرحلة أزمة أمنية واقتصادية كبيرة جدا، وهم من هذا الباب بدؤوا يلمسون أن الشركات الأجنبية تغزوهم من كل حدب وصوب عملا بقاعدتهم الشهيرة حول تحرير الأسواق وعولمة الشركات، وقد انعكس ذلك على نظرتهم وتصرفاتهم تجاه الآخرين، خاصة أن الولايات المتحدة كانت قد منعت مؤخرا عبر قرار من الكونجرس شركة الصين الوطنية للبترول “سينوبك” من شراء “أونكل” النفطية الأمريكية، بحجة أن هذه الصفقة تهدد الأمن القومي الأمريكي!
قامت شركة دبي القابضة “شركة موانئ دبي العالمية” مؤخرا، وهي ملك لدول الإمارات العربية المتحدة وتعتبر ثالث أكبر مشغل للموانئ في العالم، بشراء شركة بريطانية في هذا الإطار بمبلغ 6،8 مليار دولار أمريكي.
يعطي هذا الشراء الحق لشركة دبي القابضة في إدارة 6 موانئ أمريكية مع مرافقها، وهي: نيويورك، ميامي، الزابيث، فيلاديلفيا، نيوأورليانز، وبالتيمور. وقام السياسيون في هذه المدن بدق ناقوس الخطر محذرين من “وقوع منشآت حيوية في أيدي العرب” ومطالبين بإلغاء هذه الصفقة، وصد موافقة بوش عليها ومنعه عبر القنوات القانونية والإعلام.
أسباب التخوف
استنادا إلى الجهات المعارضة لهذه الصفقة، فإن السبب الرئيس في رفضها هو وجود اثنين من خاطفي الطائرات في عملية 11 شتنبر 2001 من الجنسية الإماراتية، أما السبب الثاني فهو التخوف من أن تقوم الشركة التي تملكها الإمارات بتوفير مدخل للإرهابيين سواء عبر الإفراد أو الأسلحة إلى أرض الولايات المتّحدة الأمريكية.
هذا، ويرى آخرون أن التخوف يأتي من حقيقة أن الولايات المتحدة يدخلها أكثر من 9 مليون حاوية سنويا وبحجم هائل، الأمر الذي يعني أن عددا ضئيلا من هذه الحاويات تخضع للتفتيش الدقيق والكامل، وهو ما يشير بدوره إلى إمكانية قيام أي جهات تنوي إلحاق الضرر بأمريكا بتهريب رجال أو أسلحة للقيام بأي عملية داخل أمريكا عبر هذه الحاويات، خاصة أن أكثر ما يثير القلق هو إمكانية تهريب أسلحة دمار شامل عبر أي من هذه الحاويات الغير خاضعة للتفتيش.
هل هذه المسوغات منطقية؟
يبدو أن الولايات المتحدة فقدت توازنها بشكل كامل بعد عمليات 11 أيلول، وأصبحت الآن تعاني من هلوسة أمنية أو فوبيا أمن قومي إن صح التعبير، وهذا ما ينعكس سلبا على طريقة رؤيتها للأمور.
يقول “كيرك باتريك” وهو أحد الباحثين المساعدين في مركز الأمن القومي للدراسات، إن هذه الحجة واهية، ويسند كلامه هذا بالقول لو كان هذا صحيحا، فلماذا لم يعترضوا على إدارة الشركة البريطانية لهذه الموانئ الأمريكية، خاصة أن “ريتشارد ريد” الملقب بصاحب الحذاء المتفجر، هو بريطاني الجنسية!!
ومن المؤكد أن المخاوف هذه ليست حقيقية، وهي إن تحققت بغض النظر عن جنسية الشركة المشغلة أو مقرّها أو قدراتها، و ذلك لعدد من الأسباب منها:
أولا: صحيح أن هذه الشركات المشغلة للموانئ ستتولى العمل منها وإليها، لكنّ مسائل الأمن في الموانئ وتفتيش الحاويات وحراسة الساحل قبالة هذه السواحل ستبقى من اختصاص السلطات الأمريكية الرسمية.
ثانيا: فيما يتعلق بالعاملين في الموانئ هذه، فإنه على الشركات التي تديرها ومن بينها الشركة الإماراتية أن تختار العاملين من خلال جهتين أمريكيتين حصريا، تؤمّنان لمثل هذه الشركات العمال اللازمين لإدارة وتشغيل الميناء وجميع العاملين دون استثناء، ومهمّتهم نقل البضائع من السفن إلى الميناء ومن الميناء إلى الشاحنات والعكس بالعكس، ومن هنا يتبين أن الأمريكيين سيتولون مسئولية نقل الأمتعة أيضا من وإلى الميناء.
ثالثا: إن هناك شركات أجنبية غير أمريكية تدير عدة موانئ أمريكية أيضا، فلماذا لم يتم إثارة هذه القضية إلا في وجه هذه الشركة الإماراتية؟! ثم إن هذه الشركة تدير موانئ في كل من ألمانيا، الصين، استراليا، وكوريا الجنوبية وفقا لتقرير محطة سي. بي. اس الأمريكية (C.B.S)، ومع ذلك لم يعترض هؤلاء عليها استنادا إلى مسألة الأمن القومي.
العولمة والتحرر التجاري ينقلب كابوسا على أمريكا
من المعلوم أن العولمة الهادفة إلى التحرر نهائيا من القيود وفتح الأسواق وتدفق الاستثمارات تتولى الترويج لها الولايات المتحدة الأمريكية في هذا العصر، وما كانت لتشجع ذلك لو أنها غير مستفيدة بشكل كبير، وذلك عبر ممارسة نفوذها وإغلاق الأبواب أمام الاستثمارات متى تشاء وحجز الأموال وتجميدها متى يريد.
الأمريكيون الآن يمرون بمرحلة أزمة أمنية واقتصادية كبيرة جدا، وهم من هذا الباب بدؤوا يلمسون أن الشركات الأجنبية تغزوهم من كل حدب وصوب عملا بقاعدتهم الشهيرة حول تحرير الأسواق وعولمة الشركات، وقد انعكس ذلك على نظرتهم وتصرفاتهم تجاه الآخرين، خاصة أن الولايات المتحدة كانت قد منعت مؤخرا عبر قرار من الكونجرس شركة الصين الوطنية للبترول “سينوبك” من شراء “أونكل” النفطية الأمريكية، بحجة أن هذه الصفقة تهدد الأمن القومي الأمريكي!
وضمن هذا الإطار، يسخَر الكاتب “ديفد بروكس” من الوضع في أمريكا قائلا: (شد انتباهي أن كثيراً جداً من البضائع الأجنبية المستوردة إلى بلادنا، يصنعها أجانب يتحدثون لغات أجنبية نجهلها،…وأن الكثير من أنواع الحمص والخبز الذي يأتينا، إنما يصنعه العرب الذين تنتمي إليهم تلك المجموعة الإرهابية التي نفذت هجمات الحادي عشر من سبتمبر! كما انتبهت أيضاً إلى الهيمنة الصينية المطلقة على كافة الألعاب والدمى والمنتجات التي نستخدمها في تسلية أطفالنا.
ولكل هذه الأسباب، فلعله حان الوقت لصياغة مسودة قانون “أنقذوا أطفالنا” ضمن تشريعات الأمن القومي، شريطة أن يتخذ طابعاً عرقياً، يهدف ضمن ما يهدف، إلى منع المسلمين من شراء شركات إدارة الموانئ الأميركية، وإلى منع الصينيين من شراء شركات النفط والشركات القومية المصنعة لألعاب الأطفال… إلخ. ولكي نوجز القول، فإن المطلوب لحماية أمننا القومي ونمط حياتنا الأميركي، هو تنظيم حملة واسعة النطاق قوامها كره الأجانب ومعاداتهم، وهدفها إبراز وجهنا القومي الذي يؤكد للأجانب أننا لم نعد رهناً لأساليبهم الماكرة الخبيثة! وإن كنت ممن يجزعون لموعد انطلاق حملة كهذه، فلتكف عن الجزع طالما أن حمى الهستيريا القومية الانعزالية العامة قد اشتعلت سلفاً!).
ألم يتفطن الأمريكيون إلى أنهم هددوا ويهددون الأمن القومي لجميع دول العالم دون استثناء عبر شركاتهم العابرة للقارات وتكتلاتهم الاقتصادية، ويتلاعبون بالقرار السياسي لهذه الدول ويبتزونها متى شاءوا؟! لقد حان الوقت أن يعرف الأمريكيون قواعد اللعبة جيدا، فهل سيفهمون ذلك، أم سنرى الولايات المتحدة الأمريكية بعد عشرين سنة تقف على رأس الدول المطالبة بالحد من الحريات التجارية والاستثمارات، عندما تصبح هي ضحيّة لها، وسلطتها السياسية رهنا بأصحاب هذه الشركات من الجنسية الصينية أو الأوروبية أو حتى الإسلامية؟!