صدام الإمبراطوريات

معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: صدام الإمبراطوريات – LE CHOC DES EMPIRES
المؤلِّف: جون ميشيل كاتربوان
مراجعة: عبد السلام رزاق
الناشر: GALLIMARD
سنة النشر: 2014
عدد الصفحات: 265 صفحة

يُصنَّف كتاب “صدام الإمبراطوريات: الولايات المتحدة الأميركية والصين وألمانيا: من سيهيمن على الاقتصاد-العالم؟” لمؤلِّفه الإعلامي والباحث الاقتصادي الفرنسي، جون ميشيل كاتربوان، ضمن فئة الكتب التي تؤسِّس لثقافة مستقبلية بشأن التحولات الجيوسياسية والاقتصادية في العالم خلال القرن الحادي والعشرين. فمن خلال منظور معرفي يعتمد الاقتصاد محدِّدًا مركزيًّا لسياسة الدول، عمد الباحث إلى تفكيك نقاط قوة الدول الإمبراطورية اقتصاديًّا وسياسيًّا ومكامن ضعفها في لعبة الصراع العالمي، القائم على المنافسة الشرسة وسياسة الهيمنة وإخضاع الخصوم.
انطلاقًا من تحليل إحصائي للمعطيات الرقمية ودراستها على ضوء التوجهات السياسية المؤطِّرة للسياسة العالمية، وفي مسعى للإجابة عن سؤال إشكالي عمَّن سيُهمن على دواليب الاقتصاد العالمي ويتحكم في توجيه السياسيات العالمية خلال القرن الحالي، قدَّم كاتربوان تصنيفًا جديدًا للقوى الاقتصادية والسياسية في القرن الحادي والعشرين.
وفق هذا التصنيف تبوَّأ كل من أميركا والصين وألمانيا الصف الأول، باعتبارها الوجه الإمبراطوري الجديد للدول المتحكمة في السوق العالمية، متبوعة بروسيا واليابان في الصف الثاني، وفرنسا والمملكة البريطانية في الصف الثالث.
وعمل كاتربوان في كتابه الموزَّع على فصلين كبيرين، وأربعة عشر بابًا، على توضيح الأطروحة المركزية لكتابه، والقائمة على أن العلاقة بين هذه الدول/الإمبراطوريات هي علاقة صراعية وتخضع لمنطق الاصطدام المتكرر، وأن الدولة/الإمبراطورية التي ستهيمن على الاقتصاد العالمي في العقدين الأول والثاني من الألفية الجديدة سيكون لها حق الأفضلية في توجيه السياسة العالمية خلال ما تبقَّى من القرن.
ويعد جون ميشيل كاتربوان من أهم الوجوه الإعلامية الفرنسية المتخصصة في الدراسات الجيوسياسية والاقتصادية، وله إسهامات عدَّة في كُبريات الجرائد والمجلات الفرنسية، كما ألَّف عدَّة كتب منها كتاب “الأزمة العالمية 2008″، و”الموت من أجل الإيوان: كيف يجب تلافي الحرب العالمية” في 2011.
الصراع الأميركي-الصيني المفتوح
لا يتردد جون ميشيل كاتربوان في تذكير قارئه منذ الصفحات الأولى للكتاب بأن أميركا تمثل “الدولة/الإمبراطورية الأولى في العصر الحديث، وأن قوتها تكمن في هيمنتها الاقتصادية والسياسية القائمة على دينامية الإنتاج والحرية الفردية داخل أميركا وخارجها”. وهذه الفكرة قد تكون برأي البعض مسلَّمة غير قابلة للنقاش، ما دامت أميركا قد نجحت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في فرض “النموذج الديمقراطي الغربي” باعتباره النموذج الأصلح في العالم. وتسويق درس قديم/جديد لدول العالم وباقي الإمبراطوريات مضمونه “أن الرفاه الاقتصادي الحقيقي والكامل، لن يتحقق إلا من خلال غياب الدولة وإلغاء دورها في الدورة الاقتصادية”.
لكن يبدو أن واقع الحال يكشف نسبية هذا التوجه؛ فالقول بالهيمنة المطلقة، حسب المؤلف، هو “انتفاء للفعل التاريخي ونهاية الصراع ومبدأ الاصطدام والتصادم، وإلا كيف يمكن تفسير هذا السباق المحموم بين القوى الاقتصادية الكبرى على الأسواق الجديدة؟”.
قد يكون النموذج الاقتصادي والسياسي الأميركي القائم على اقتصاد السوق الحرة، وحرية انتقال الرساميل والشركات متعددة الجنسيات، إلى جانب تقديس الفرد على حساب الجماعة هو النموذج المهيمن، لكن ما مدى مستوى هذه الهيمنة؟ أهي جزئية أم كلية؟ وضمن أي مدى زمني؟ ووفق أي شروط؟
إن هذه الأسئلة هي ذاتها التي طرحها صاحب الكتاب عندما تساءل عن الهاجس الذي “يؤرِّق صُنَّاع القرار الأميركي بشأن مستقبل نموذجهم السياسي والاقتصادي، وهل من الجائز الاطمئنان لديمومة الصياغة الأميركية للعالم في ظل وجود منافسين محتملين؟”. فمقولة: “الولايات المتحدة الأميركية هي الربَّان الوحيد للاقتصاد العالمي” أضحت -حسب الكتاب- بعد الأزمة المالية لعام 2008 مقولة نسبية، والسبب أنه رغم الاحتراز الذي ميَّز السياسات الاقتصادية والمالية الأميركية، عرفت البلاد أزمة خانقة لا تختلف كثيرًا عن أزمة الكساد التي عرفها العالم سنة 1929، وأن تداعياتها طالت الداخل الأميركي ودول الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية التي يرتبط اقتصادها بصورة مباشرة أو غير مباشرة بواشنطن.

تمثِّل الصين الوجه الإمبراطوري المناقض لأميركا. وهذا الأمر ليس بالجديد برأي صاحب الكتاب؛ فالصين كانت “إمبراطورية خلال القرن الخامس عشر، ومنذ ذلك الوقت ظلت متمركزة حول ذاتها في بحر الصين، ولم تكن تعتبر نفسها مركزًا للعالم، بل كانت تنظر لنفسها باعتبارها العالم بأكمله”. واليوم لا يتردد قادة الصين في القول بأنهم رفضوا الدرس الأميركي التقليدي، وقاموا في العام 1989 في ساحة “تيان آن مين” بقمع الطلاب الذين طالبوا باعتماد ديمقراطية غربية، وقام الحزب الشيوعي إثر ذلك بالمزج بين سياسة الزعيم “ماو تسي تونغ” القائمة على الحمائية، والانفتاح المدروس للزعيم “دينغ شياو بينغ”؛ وبالتالي تم بناء “الرفاه الصيني بمعزل عن التأثير الأميركي” ليمثِّل مزيجًا من عمل الرجلين، ويجمع بين “الأيديولوجيا الوطنية القائمة على القومية الصينية والأيديولوجيا الشيوعية والأيديولوجيا الرأسمالية”.
فمن منظور اقتصادي خالص، نجد الصين دولة رأسمالية لأنها تسمح بمبادئ السوق من خلال اعتماد مفهوم المِلْكية الخاصة والثراء الفردي، لكنها شيوعية حينما يتعلق الأمر بالنظام السياسي القائم على هيمنة الحزب الواحد، وهي دولة قومية لأن القومية الصينية هي عنصر الوحدة الضامن لصيرورة البلاد، وتلافي التعارضات التي يمكن أن تقع بين الأيديولوجيا الرأسمالية ودفاعها المستميت عن الديمقراطية السياسية، وبين الأيديولوجيات الشيوعية التي لا تقبل باقتصاد السوق.
ويُرجع صاحب الكتاب التفوق الصيني إلى اللجوء لـ”الاستراتيجية الميركانتيلية” القائمة على بناء النمو الاقتصادي للبلاد اعتمادًا على الصادرات نحو الخارج وتحقيق فائض في الميزان التجاري كمحور للسياسة الاقتصادية من خلال اتخاذ إجراءات لتشجيع التصدير وتقليص الاستيراد.
وأفرد صاحب الكتاب صفحات عدة من الفصل الأول للخوض في الحروب الاقتصادية والتجارية بين الصين وأميركا، وهي الحروب التي أمكننا حصرها واختزالها في ثلاث مستويات:
المستوى الأول: الحرب التجارية.
المستوى الثاني: حرب العملات.
المستوى الثالث: حرب الشراكات.
عودة ألمانيا الأوروبية
برغم النزعة الفرنسية الواضحة لصاحب الكتاب، فإنه لا يخفي إعجابه بالاستراتيجية الألمانية في اللعبة الاقتصادية العالمية، فمنذ تفكيك أوروبا الشرقية وتوحيد ألمانيا تحوَّل ميزان القوة من دول أوروبا الغربية خاصة فرنسا وبريطانيا لمصلحة ألمانيا لتصبح برلين هي مركز أوروبا وليس باريس ولا حتى لندن.
ويُرجع الكاتب هذا التفوق إلى السياسة الاقتصادية الألمانية القائمة على التوازن الصارم بين السياسة الحمائية والسياسة الميركانتيلية. على الرغم من أن ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة سياسيًّا ومنكسرة اقتصاديًّا، إلا أنها نجحت منذ توحيدها في العام 1990 في تحقيق حلم بسمارك بالإمبراطورية الجرمانية.
وفي 2011 اعتمدت تدابير جديدة تمثَّلت في “الضبط الإداري للاستهلاك الداخلي”، ونجحت في فرض رؤيتها النقدية على الاتحاد الأوروبي؛ ما جعل قوة اليورو مرتبطة بقوة المارك الألماني، والهدف طبعًا كان هو خدمة الاستراتيجية التجارية للصناعة الألمانية في الداخل والخارج.
واليوم لا تقدِّم ألمانيا نفسها كإمبراطورية بالمعنى التقليدي للكلمة، ما دامت لا تمتلك جيشًا، ودبلوماسيتها الخارجية ضعيفة، لكنها بالمقابل تمكَّنت في أقل من عقد واحد من أن تصبح سيدة أوروبا اقتصاديًّا، والدرس الوحيد الذي تقدمه للعالم هو أنها خسرت الحرب العالمية الأولى والثانية، لكنها فازت بالسلم والرفاه الاقتصادي.
الخارجون من السباق
يتحدث جون ميشيل كاتربوان بكثير من الحرقة حينما يؤكد أن القرن 21 لن يكون فرنسيًّا، فقط أميركا والصين وألمانيا سيكون لهم دور حاسم في رسم معالم الاقتصاد العالمي خلال هذا القرن.
والسبب في نظره هو أن فرنسا خلال خمس وعشرين سنة الماضية راكمت الأخطاء وخطؤها الفادح هو أنها لم تتفاوض جديًّا بشأن توحيد ألمانيا؛ فالانفتاح الأوروبي على ألمانيا وعلى الشرق أضرَّ بقوة فرنسا ومستقبلها التجاري والمالي وأسهم في استمرار عجز ميزانها التجاري إلى الحدِّ الذي جعل الدوائر السياسية الفرنسية اليوم تُجمع على أن “ألمانيا التهمت الدور الفرنسي في الاقتصادي العالمي”. وأن الرؤساء الفرنسيين يجهلون قوانين اللعبة الاقتصادية العالمية، فالرئيس فرانسوا هولاند يعرف الكثير عن الداخل الفرنسي لكنه لا يعرف الكثير عن العالم، في حين أن المستشارة الألمانية ميركل تقوم سنويًّا بزيارة خاصة للصين والصينيون اليوم لا يعرفون أوروبا إلا من خلال منظور ألماني خالص.
رغم خروجها من الحرب العالمية الثانية مدمرة ومنهكة، وبعد ربع القرن من الاقتصاد المحدود تمكنت اليابان من حل أزمة الطاقة في الداخل عبر استخدام الطاقة النووية غير المكلفة وبعدها تفرغت للتصدير. وبين العامين 1970-1980 نجحت الحكومات المتعاقبة في تفعيل معدل المبادلات التجارية واستطاعت البضائع اليابانية غزو السوق الأميركية.
لكن التغيير الكبير الذي حصل في السياسية الاقتصادية اليابانية تمثَّل في أن الطبقة السياسية اليابانية ممثلة في الحزب الديمقراطي الليبرالي اختارت التقارب مع الصين على حساب الغرب، وكان من نتائج ذلك اتفاق نقدي يقوم على توحيد القيمة السوقية للين الياباني واليوان الصيني في مبادلاتهما التجارية أمام الدولار الأميركي ما اعتُبر حينها تحالفًا صينيًّا يابانيًّا ضد واشنطن.
أمَّا روسيا، فلا يمكنها برأي الكتاب أن تصبح إمبراطورية اقتصادية خلال القرن الحالي لأسباب كثيرة ومتعددة؛ ما يعني استحالة تحقيق حلم ستالين الذي كان يسعى لبناء الإمبراطورية السوفيتية على النمط الاشتراكي.
ويبدو أنها على عهد ديمتري ميدفيديف وفلاديمير بوتين قد اكتفت بترتيب بيتها الداخلي من خلال حملات مفتوحة ضد الفساد داخل الطبقة السياسية وعصابات المافيا التي تهيمن على دواليب الاقتصاد.
ويُقر الكتاب بأن السياسة الروسية العامة اليوم لا تزال منكبَّة على الجبهة الداخلية، ولأنها المورد الأساسي للمواد الأولية التي تحرك الاقتصاد العالمي، فإن هذا قد يكون عنصر قوة لسياسة اقتصادية روسية جديدة لم تستكمل بعد شروطها الموضوعية، بمعنى أن “روسيا بوتين لم تقل كلمتها بعد”.
الخاتمة
يحيل كتاب “صدمة الإمبراطوريات” على عنوان كتاب آخر يحمل نفس الاسم ألا هو “صدام الحضارات” للمفكر السياسي الأميركي صامويل هينتنغتون، الذي أسَّس “أطروحة سياسية” تقوم على مقولة الصدام بين الحضارات الشرقية المستندة إلى العقيدة الإسلامية، والحضارات الغربية الموجهة من قبل الديانة المسيحية.
وإذا كانت الوقائع السياسية العالمية قد كشفت زيف الأيديولوجية الغربية الموجِّهة لهذه النظرية التي لا تخلو من أهداف سياسية فاضحة، الغاية منها خلق خصم بديل للغرب الأميركي والأوروبي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فإن أطروحة كتاب جون ميشيل كاتربوان بعيدة كل البعد عن مثل هذه الأطروحات.
تقوم أطروحة هذا الأخير على المعطيات والأرقام المستخلصة من حالات الصدام المتكرر بين الدول والإمبراطوريات ذات النزوع التوسعي والهيمنة الاقتصادية عبر الوسائل المالية والتجارية.
وبالرغم من ثقة مؤلف الكتاب في الاقتصاد العالمي، وتعافيه على المدى المتوسط، فإن قراءة الكتاب على ضوء التحولات التي يشهدها القطاع المالي والمصرفي العالمي اليوم يدعو إلى تأسيس استنتاج جديد قوامه أن الاقتصاد العالمي لم يخرج بعدُ من تداعيات حالة الانحسار الذي بدأ منذ العام 2008.

عبد السلام رزاق
باحث وإعلامي بشبكة الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *