يعتبر تدريس العلوم الشرعية ضرورة مجتمعية ملحة تفرض نفسها أكثر من أي وقت مضى لجميع الأفراد، بحكم أنها المعين الذي لا ينضب من العلم الديني والدنيوي والخلق.. وبالنظر إلى ما آلت إليه منظومة العلم والأخلاق والقيم من نكوص وانتكاس في مجتمعنا.
لقد غدا التعليم الأصيل رهانا يرفع هذا التحدي، كيف لا وهو ينتمي إلى مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فالتمسك بهذا النمط من التعليم هو تمسك بالقيم الإسلامية يدخل في إطار الواجب، لما استطاع حفظ الهوية المغربية خاصة إبان الاحتلال وبعد جلائه، بتكوين العلماء والأطر الذين تخرجوا من رحم هذا التعليم؛ والذين يسهمون في تدبير شؤون البلاد.
فهل بمقدور التعليم الأصيل اليوم ريادة البلاد نحو نهضة شاملة بسده للثغرات والفجوات التي انزلق فيها التعليم العام في بلادنا؟
وبتعبير آخر هل حفظ القرآن الكريم وتعليم الطفل العلوم الشرعية من توحيد وفقه وسيرة وغيرها يؤثر على مستوى التلميذ وتحصيله العلمي ونموه اللغوي وحبه للقراءة؟
التعليم الأصيل في ثوب جديد
لعب التعليم الأصيل دورا تاريخيا باعتباره جزءا من أصالتنا العربية والإسلامية، انطلق من المساجد ليصل إلى جامعة القرويين ويخرج عددا هائلا من علماء المغرب في شتى أنواع العلوم، وهو اليوم بمثابة مدخل أساسي وفرصة كبيرة يجب التشبث بها من أجل ربط الأجيال الصاعدة بالمنابع الروحية لمحو أزمة القيم الدينية والتربوية التي يعاني منها المجتمع المغربي، إذ أضحت تنسف الجهود التي تبذلها باقي المؤسسات الدينية، مما جعل المغرب يعاني منها وتؤثر على هوية وأخلاق شباب الأمة.
يعتبر التعليم الأصيل أحد مكونات التعليم المغربي العمومي وذلك ما ينص عليه الميثاق الوطني للتربية والتكوين (المادة:88)، وفي الآونة الأخيرة بات التفكير في تغطية كل الأقاليم بأقسام التعليم الأصيل لرد الاعتبار لهذا النوع من التعليم، نظرا لعدة اعتبارات؛ منها النظرة الدونية التي كان ينظر بها إلى هذا التعليم؛ بدعوى أنه يستقطب غير الناجحين في نهاية الأسلاك التعليمية، وكذلك أصحاب المستويات الدنيا والمعدلات دون المتوسط.
ونشير كذلك إلى الامتياز الحاصل للتعليم الأصيل حيث أن مرتاديه يدرسون نفس مواد التعليم العام علاوة على تعمق في المواد الشرعية، مع إمكانية التحاقهم بالتعليم العام متى أرادوا دون أن تتاح الفرصة لأقرانهم في التعليم العام لولوج التعليم الأصيل، وكما أن الطفل بعد استكماله للمرحلة الابتدائية سيكون حاملا لكتاب الله وحافظا لعدد هائل من الأحاديث النبوية الشريفة؛ مما سينعكس إيجابا على شخصيته بأبعادها الثلاثة: المعرفي، المهاري والوجداني. إضافة إلى أن جميع الكليات والمعاهد ستفتح في وجوههم بعد التعليم الثانوي، وبالتالي ستتخرج أطر حاملة لكتاب الله تعالى من أطباء، ومهندسين، وقضاة، وأكاديميين…
فاعلية التعليم الأصيل
من خلال تحليل نتائج مقابلات موجهة أجريتها مع أساتذة يتولون التدريس في التعليمين العام والأصيل في مؤسسة للتعليم الخصوصي بمدينة أكادير، يتبين أن هناك تفاوت في التحصيل، حيث أكدت النتائج التي تم التوصل إليها أن تحفيظ القرآن الكريم للأطفال والسعي للالتزام بأحكامه وتعاليمه يجذبهم للقراءة منذ الصغر، ويجعل التعليم يستجيب لمشاعرهم، ويحقق ميولهم، ويشبع اتجاهاتهم الدينية المتأصلة في فطرتهم، ومن خلال التربية الدينية ننفذ إلى قلوب الأطفال ونستثير حماسهم للسلوك المرغوب فيه وهو القراءة، وذلك يتم من خلال استثارة عاطفتهم الدينية وتوسيع مداركهم.
وأفاد الأساتذة كذلك أن القرآن الكريم يساعد على تعزيز المكونات الثلاث للاتجاه نحو القراءة، وهي المكونات الوجدانية، والمكونات المعرفية بما يحويه القرآن الكريم من الإشارات والتنبيهات التي تحث على القراءة والبحث والتفكير، ثم المكونات السلوكية من خلال الآثار اللغوية التي تبدو في قدرة الطفل على نطق الكلمات العربية نطقًا صحيحًا مما يعزز مهارة القراءة لديه. ليس هذا فحسب، بل تفوقهم في مادة الرياضيات واللغتين الفرنسية والإنجليزية والمعلوميات باد وجلي مقارنة مع أترابهم في الفصول الأخرى.
جدير بالإشارة كذلك الدراسة التي أجراها الدكتور عبد الباسط متولي خضر مدرس الصحة النفسية؛ وكانت حول أثر تعليم العلوم الدينية على مستوى النمو اللغوي للطفل، من خلال دراسات ميدانية على عينات مختلفة من التلاميذ في كل من مصر والسعودية.
وأكد الباحث أن الطفل يستطيع الحفظ بدرجة عالية لأن خبراته اللغوية في هذا السن تكون محدودة إلى الدرجة التي قد ينعدم فيها التداخل بين هذه الخبرات وبين النصوص اللغوية في القرآن الكريم، مما يساعد على سرعة الحفظ وحسن الاحتفاظ، ولأن القرآن الكريم هو قمة البيان اللغوي العربي فإن مستوى النمو اللغوي للطفل يرتقي بالقدر الذي يحفظه من القرآن الكريم.
ووجد الباحث أن هناك فروقًا إحصائية بين المستوى اللغوي للأطفال الذين يتلقون علومًا دينية؛ وأقرانهم ممن لا يتلقون هذه العلوم، ذلك أن الممارسة الفعلية لجوانب النمو اللغوي من خلال المواد الدينية وهي الفهم اللغوي، وطلاقة الكلمات، وقواعد الهجاء، وإدراك العلاقات اللفظية، والذاكرة اللغوية؛ يحدث التأثير الإيجابي للتنمية اللغوية والقدرة على الإدراك {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. ويخلص الباحث أيضًا إلى أهمية حفظ الأطفال المبكر للقرآن لما له من أهمية كبيرة، ليس فقط على النمو اللغوي ولكن يتعدى تأثير ذلك إلى النمو العقلي.
أعتقد جازما أنه لتفعيل هذا النوع من التعليم ونشره على نطاق واسع ليأتي أكله كل حين بإذن ربه؛ لا مناص من تنظيم حملات وطنية تعرف به في الملتقيات وعبر الصحافة بمختلف تلويناتها؛ حتى يكون القاصي والداني على علم بقيمته المضافة، وعلى الدولة زيادة الاعتمادات المخصصة له لإنشاء مدارس تعنى به عوض أقسام، مع تأهيل العنصر البشري الذي سيضطلع بالتدريس انتقاء وتكوينا وتمهينا، وتحفيزه ماديا ومعنويا.
ويبقى تكييف البرامج والمناهج مع ما يتماشى وقيم القرآن الكريم والسنة المطهرة أمرا محتوما حتى لا تنفصم شخصية الناشئة بتعارض القيم، دون أن ننسى تشجيع الآباء والتلاميذ الراغبين في الاستفادة منه بتقديم جميع أنواع الدعم الاجتماعي الذي توفره الوزارة (برنامج تيسير، مليون محفظة، النقل المدرسي، المنح….).
لا مندوحة إذن من توفير كل الوسائل لإنجاح هذا الورش والسعي لإشراك الجميع لضمان انخراطهم على اعتبار أنه خيار استراتيجي، سيتيح فرصا أكبر وإمكانات أكثر للعباد والبلاد.