وقفات تربوية مع بعض الوصايا النبوية -الحلقة الخامسة- ذ. محمد الدرداري

قال أبو ذر رضي الله عنه: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، قال: “اسمع وأطع ولو لعبد مجدوع الأنف، فإن صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمرقتك، وصل الصلاة لوقتها”(1).
لقد اشتمل هذا الحديث على معاني جليلة وفوائد عظيمة منها:
– الفائدة الأولى: وجوب طاعة أولي الأمر في المعروف
وهذا باب عظيم من أبواب السياسة الشرعية، وقعت بسبب الجهل به فتن عظيمة سفكت فيها الدماء، وانتهكت الأعراض، وأخذت الأموال، ومن أجل ذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 58)، وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بأولي الأمر في الآية هم الأمراء والحكام. قال أبو السعود العمادي: “وهم أمراءُ الحقِّ وولاةُ العدلِ، كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين، وأما أمراءُ الجَوْرِ فبمعزل من استحقاق العطفِ على الله تعالى والرسولِ في وجوب الطاعةِ لهم”(2)، وعن ابن وهب قال: “قال ابن زيد: قال أبي: هم السلاطين”(3).
وفي هذا المعنى يقول محمد صديق خان: “وأولو الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة وأمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية. والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله”(4)، ففي الحديث: “على المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”(5)، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كان رأسه زبيبة”(6).
وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، يقول: “ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا”(7).
– الفائدة الثانية: أكرم جارك وارْعَ حقه
إن إكرام الجار والإحسان إليه ضرب من ضروب الإيمان، ومسلك من مسالك الإحسان، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى في كتابه بالجار، فقال سبحانه: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} (النساء: 36-37).
كما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي شريح العدوي قال: “سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره”(8)، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”(9).
وإذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر بإكثار المرق حتى يطعم معه جاره فإن للإحسان أبوابا أخرى غير الإطعام، منها: أن يجيب دعوته إذا دعاه، وأن يتفقد أحواله ويسلم عليه ويكف أذاه عنه، ويهنئه إن أصابه خير، ويعزيه إن نزلت به مصيبة في ماله أو أهله أو ولده أو صحته… بل ومن إكرام الجار ما يكون حتى بعد مماته، وذلك بالدعاء له واتباع جنازته.
– الفائدة الثالثة: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا
فإن من أخر الصلاة عن وقتها واتخذها عادة له كان إثمه كبيرا، وذنبه عظيما، كيف لا والله عز وجل يقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (الماعون: 4-5-6)؛ يقول الواحدي: “وقال أكثر المفسرين: معنى عنها ساهون: أي يغفلوا عنها حتى يذهب وقتها”(10)، ويقول الإمام الطبري: “عُنِيَ بذلك أنهم يؤخِّرونها عن وقتها، فلا يصلونها إلا بعد خروج وقتها”(11).
ومما يدل على خطورة تضييع الصلاة وعدم أدائها في وقتها قوله تعالى في آية أخرى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم: 59)، قال مقاتل: “أَضاعُوا الصَّلاةَ يعني أخروها عن مواقيتها”(12)، وهو قول سفيان الثوري والإمام الأوزاعي وموسى بن سليمان وغيرهم.
ولقد جاء الأمر بالمحافظة على الصلاة في وقتها صريحا في القرآن الكريم في قول الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتاً} (النساء: 102)، جاء في التفسير الوسيط للقرآن الكريم: “أَي أقيموها كذلك؛ لأَنها كانت في حكم الله، ولا زالت مكتوبة مفروضة محددة الأوقات، لا يجوز إِخراجها عن أوقاتها في أَمن”(13)، وقال الزجاج: “كِتاباً مَوْقُوتاً أي مفروضاً مؤقتاً فرضه”(14).
إن تأخير الصلاة عن وقتها يعد من أكبر الكبائر، بل هي صفة من صفات المنافقين، فعن العلاء بن عبد الرحمن أنه “دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلمّا انصرفنا قال سمعت رسول الله يقول: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا”(15).
ومن أجل هذا لما سأل ابن مسعود النبي عليه الصلاة والسلام عن أحب الأعمال إلى الله قال: “الصلاة لوقتها؛ قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين؛ قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله”(16).
وخرج الإمام أحمد من حديث كعب بن عجرة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “قال ربكم: من صلى الصلاة لوقتها، وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافا بحقها، فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها، ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافا بحقها، فلا عهد له، إن شئت عذبته، وإن شئت غفرت له”(17).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، لصهيب عبد الجبار، الكتاب غير مطبوع حسب بيانات المكتبة الشاملة، ج.4، ص: 266.
2- إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود، دار إحياء التراث العربي-بيروت، دون طبعة ولا سنة النشر ج.2، ص: 193.
3- جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، تحقيق العلامة أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ، ج.8، ص: 492.
4- فتحُ البيان في مقاصد القرآن، لأبي الطيب محمد صديق خان القِنَّوجي، المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر، صَيدَا-بَيروت 1412 هـ، ج.3، ص: 155.
5- صحيح مسلم، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، حديث رقم: 1839.
6- صحيح البخاري، باب إمامة العبد والمولى، حديث رقم: 693.
7- صحيح مسلم، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، حديث رقم: 1838.
8- صحيح البخاري، باب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، حديث رقم: 6019؛ صحيح مسلم، باب الحث على إكرام الجار، حديث رقم: 748.
9- البخاري، باب الوصاة بالجار، حديث رقم: 6014؛ صحيح مسلم، باب الوصية بالجار، حديث رقم: 2625.
10- التَّفْسِيرُ البَسِيْط، للواحدي، نشر عمادة البحث العلمي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط.1، 1430هـ، ج.24، ص: 358.
11- جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، تحقيق أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط.1، 1420هـ، ج.24، ص: 630.
12- تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق عبد الله محمود شحاته، دار إحياء التراث-بيروت، 1423هـ، ج.2، ص: 632.
13- التفسير الوسيط للقرآن الكريم، تأليف مجموعة من العلماء، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ط.1، 1393هـ، ج.2، ص: 898.
14- بحر العلوم، للسمرقندي، دون طبعة ولا دار النشر ولا سنة النشر حسب بيانات المكتبة الشاملة، ج.1، ص: 335.
15- صحيح مسلم، باب استحباب التبكير بالعصر، حديث رقم: 195.
16- البخاري، حديث رقم: 7534؛ مسلم: حديث رقم: 137.
17- مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وعادل مرشد وآخرون، حديث رقم: 18132.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *