في باقي أنحاء المغرب لم يظهر أي مطالب بالعرش، ما عدا الحاجب السي اعبابو، الذي أثار احتجازه بالرباط عدة تساؤلات، بقصر فاس، حول سبب ذلك.
من ناحية أخرى كتب الجنرال سبيلمان، على أنه للحصول على موافقة العلماء “جميعهم أو على الأقل الفاسيون منهم” الذين كانوا يريدون إعطاءهم مهلة للتفكير قبل إعطاء موافقتهم، وجد السيد ميشو بلير حلا لهم، يتمثل في جمعهم بإحدى البنايات، ومنعهم من الخروج أو التخابر مع الغير، حتى يصلوا لرأي مكتوب يستطيعون التصريح به للعموم، واضعا حول البناية فرقة عسكرية تقدم التحية الشرفية للقرار المنتظر.
كما أسلفت القول كنت بفاس في وقت البيعة، متابعا التحول أولا بأول، مع مفوض الحكومة، لم تكن هناك مقاومة من جانب العلماء، ولا الأعيان الذين استدعوا للتوقيع على عقد البيعة، خاصة بعد تدخل القوات المسلحة بشكل ما.
علاوة على ذلك لو أريد استشارة تاريخ المغرب، لكان صعبا، -عند الرجوع للماضي البعيد-، العثور على نموذج رفض بيعة المختار لتقلد منصب السيادة، من قبل سلطة قائمة، متوفرة على قوة مادية.
سمح نزول رأي العلماء على الحفاض على بقاء السلطة عند العلويين -على الأقل منذ تولي المولى عبد الرحمان (1822-1859)- أن تصبح الخلافة فيهم حقيقة متوارثة، فاختار ليوطي مولاي يوسف خلفا لمولاي عبد الحفيظ، وقام السيد استيك بإبعاد مولاي ادريس لصالح سيدي محمد، وقد تكرر الفعل عندما أريد تنصيب مولاي عرفة في 22 غشت 1953 بدل السلطان الشرعي محمد الخامس، باستصدار رأي علماء فاس بعزله أسبوعا قبل إعلان الباشوات والقياد انشقاقهم على السلطان الشرعي محمد الخامس، الذي كان وراء تعيينه كما بينا؛ السيدان لمعمري معلمه لسنوات، ومارك مستشار الحكومة الشريفة، خاصة هذا الأخير الذي قام بإبعاد مولاي إدريس لفائدة سيدي محمد.
فمن هو السيد مارك الذي لعب هذا الدور الخطير في الأزمة التي حلت بالمغرب بعد وفاة عاهله مولاي يوسف؟
جاء السيد مارك للمغرب قبل سنة 1912 كقنصل في حومة الشريفة، موغادور، ثم طنجة، وانضم لإدارة الحماية بعد توقيعها، وفي عام 1917 تم تعيينه مستشارا للحكومة الشريفة تطبيقا لمرسوم 19 ماي، وبذلك احتل المرتبة الرابعة في التسلسل الهرمي لإدارة الحماية المكون من؛ المقيم العام، مندوب الإقامة، الكاتب العام للحماية، مستشار الحكومة الشريفة.
في سنة 1920 تم الجمع بين جميع مصالح المراقبة وتنظيمات المخزن في مديرية واحدة تسمى: (مديرية الشؤون الشريفة) تم وضعها تحت سلطة مستشار الحكومة الشريفة.
كان السيد مارك مثل ليوطي، مقتنعا بأنه لمنح الحماية طابعا دائما، كان من الضروري تطبيق نموذج المراقبة، واستثناء الإدارة المباشرة، والاعتماد على سلطان موحد، معزز في مكانته وسلطته وتجديده للمخزن، ولمدة عشر سنوات من إدارته لمديرية الشؤون الشريفة، سعى لتطبيق توجهه مستعينا بمعرفته باللغة العربية، وتعاليم الإسلام، كما يطبق بالمغرب خاصة، وصفاته الاستثنائية التي طبع بها سكان المغرب، كـ(المثابرة، والإدراك العالي للواجب، والاستقامة الفكرية، والأخلاقية المطلقة، والشخصية المتوازنة دائما) تحت قيادة مصالح المديرية من فرنسيين وعدد من المسلمين (مغاربة، جزائريين، وحتى تونسيين) في اتصال دائم مع ممثل القصر، في جو من الثقة والتعاطف، بحيث حل التعاون والمساعدة الفنية الحقة، محل السيطرة.
فقد كانت لديه علاقات مميزة مع السلطان، يبلغه بجميع الإجراءات والإصلاحات التي تريد الحماية إدخالها في البلاد، بحنكة مميزة.
لكنه من ناحية الرأي لم يكن يتردد في التدخل لدى المصالح الفرنسية، وغالبا لدى المقيم نفسه، لإلغاء أو تأجيل الإجراءات التي تبذو له غير مناسبة، أو سابقة لأوانها، أو من شأنها تقويض سيادة السلطان، والحط من هيبته.
وفي كثير من الأحيان يكون رأيه هو السائد، وبذلك حصل على ثقة السلطان والمخزن، وتقدير نخبة الأمة المتعلمة لغاية سنة 1925 يعني بعد رحيل ليوطي.
لقد وجد السيد مارك نفسه بعد رحيل ليوطي، أمام مؤسسات بعض المصالح الفرنسية، الميالة لنهج طريق الإدارة المباشرة للبلاد، لتحقيق الكفاءة الإدارية والاقتصادية وغيرها، وتجاوز إدارة الشؤون الشريفة التي كان مقرها داخل مشور القصر، والتي كانت تعتبر المعقل الأول للدفاع عن صلاحيات السلطان والمخزن. فكان السيد مارك هو الأكثر تأهيلا ليقترح على السيد استيك القرار الذي يجب اتخاده لحل مسألة الخلافة.
وقد اختار دون تردد، سيدي محمد الذي كان يتميز بالذكاء، والحكمة، والبساطة، والتوازن، بالمقارنة مع إخوته الأمراء الثلاثة، خلال الرحلة الرسمية التي قام بها صاحب الجلالة مولاي يوسف لفرنسا عام 1926 وهو ما جعله يكون أكثر المناسبين لخلافة أبيه على عرش المغرب، علاوة على الاعتبارات السياسية التي ساهمت في إبعاد مولاي إدريس، لاسيما الرغبة في إزالة الحاجب السي اعبابو من القصر، الذي دخله في بداية عهد المولى عبد العزيز.
اشتهر هذا الحاجب بثقافته الإسلامية الواسعة، وكان يشغل إماما بمسجد القصر الخاص للأمير مولاي يوسف، وكان قد اكتسب مكانة مرموقة في عين تلميذه مولاي يوسف، الذي سيصبح سلطانا، فيعهد للسي اعبابو بالحجابة، وشؤون الأسرة الملكية، مما منحه حق إدارة جميع القصور الملكية، والإشراف على صيانتها وضبط شؤنها.
احتفظ المعلم السابق بكل نفوذه وممارساته على السلطان مولاي يوسف، بعد تنصيبه، متسلحا بالغموض والكتمان، وقيل بأنه استغل منصبه لزيادة ثروته عبر وسائل بغيضة، وبذلك يكون قد وضع ضده قسما كبيرا من الداعين لإبعاده عن القصر، ومع ذلك فقد كان مؤكدا أنه سيتم تثبيت مكانته فيه، إذا نصب مولاي إدريس سلطانا.
فكانت الطريقة الوحيدة لإقالته، هو اختيار سيدي محمد للعرش، الذي لم يكن لديه سبب لإبعاده عنه.
أيد المقيم العام السيد استيك اختيار السيد مارك. بصرف النظر عن الاعتبارات العامة التي تم تطويرها للتو، برزت حقيقتان هامتان، من ناحية قرار السيد مارك بعد ساعات قليلة من وفاة صاحب الجلالة مولاي يوسف، بتحييد الحاجب اعبابو، الذي يتطلب بالضرورة موافقة مسبقة من السيد استيك، من ناحية أخرى فإن السلوك الرئيسي للمهتم به؛ صاحب الجلالة سيدي محمد كان يعرف أفضل من أي شخص آخر، مما يقتضي التمسك به.
صاحب الجلالة سيدي محود لم يخف أبدا مشاعر الرضا التي يكنها للسيد مارك، والتي أمكن ترجمتها عند وفاته بعد ذلك بعامين، وذلك في لفتة فريدة في التاريخ المغربي، وربما في سجل تاريخ الإسلام من خلال المراسيم التي أمر بها لتشييع جنازته، والتي حضرها برفقة كبار الشخصيات المخزنية، فقد اصطف الحرس الملكي على طول الطريق من القصر لغاية باب كاتدرائية الرباط، حيث مر جلالته لإلقاء نظرة وداع على الراحل، حيث انحنى تحية أمام رفاة ذلك الفرنسي الذي كان مستشاره بالمعنى الحرفي للكلمة، وصديقه في نفس الوقت.
بعد ذلك غادر المكان، وترك الأمر للوزير الأكبر للقيام بتأبين المتوفى، وهو تأبين أثر بعمق في الحشد الكبير الحاضر في الكاتدرائية، من مسيحيين ومسلمين ويهود قدموا من جميع أنحاء البلاد، للتعبير عن تعاطفهم وحزنهم على موته.
كانت مراسيم جنازة السيد مارك موضوع رسالة بعث بها الوزير المفوض، مندوب الإقامة، لوزير الخارجية بباريس في 31 ديسمبر 1929.
وهكذا في أقل من 48 ساعة لم يعد سيدي محمد، أميرا منسيا بالقصر الملكي بفاس، بل صار سلطانا للبلاد. ولأسباب مختلفة (ظروف تنصيبه، عدم كفاءته السياسية والفكرية، وميل الحماية المتزايد للإدارة المباشرة).
اعتقدت جميع الدوائر الفرنسية، والمغربية، أن سيدي محمد سيكون مثل والده مولاي يوسف، ظلا للجنرال المقيم العام، لكن بالتجربة والظروف المتولدة عن الحرب، جعلته يتصرف كرجل دولة، وحصل على استقلال بلاده، بعد صراع مرير، خلال 13 سنة، لم يتوان فيها عن بذل التضحية بنفسه، فوضعه التاريخ في طليعة الملوك العظام للمغرب.
Joseph Luccioni
Ancien directeur des Affaires Cherifiennes du Maroc
أنظره في ص123-129 بــ:
Petite histoire du contrôle territorial du Moyen Atlas