قيل إن العلم إدراك يصيب الحق قطعا، بينما العقيدة هي حكم الذهن الجازم الذي قد يصيب الحق وقد يخطئه، ولهذا فعندما يتكلم مخرج سينمائي عن “نجاح” “فِيلمِه” الداعر، وتتكلم مغنية داعرة عن “نجاح” ألبومها المليء بمظاهر الرذيلة، فإن كلاهما يثني على الله خيرا أن كان “التوفيق” حليفهما، وعندما تتكلم نسوة المدنية المستحدثة عن مسألة الإرث وقضية التسوية بين الذكر والأنثى، وعندما يعبر العَلماني عن اعتزازه بالتمسك بالمذهب المالكي! وعندما يستدل صاحب قيصر بحادثة التأبير ويصلي ويسلم على من قال أنتم أعلم بأمور دنياكم.. فإن الكل يسعى إلى إقامة صرح المجتمع الفاضل وهدم كيان الموروث الظلامي المفضول، والكل يعتقد أن ذلك من أوجب الواجبات وأقدس المقدسات، ولذلك فإذا تخطفت يد الردى أحد هؤلاء المناضلين فإن إعلامنا الكريم لا يتوانى عن القيام بواجب التأبين والتكريم، فنراه يجتر حصيلة التركة الموبوءة مشفوعة بشهادة الأسماء الوازنة في ميدان الفن والحداثة “العالية الهمة” في مجال السياسة.
والغريب العجيب أن هذه الجحافل الطينية أسست قومتها على الخداع والمداهنة بادئ ذي بدء، وهي تتحول اليوم بجراءة سافرة نحو السطو على منابع الخير واغتصاب أصول الحق، غير عابئة بما تحمله الحقائق الاستشراقية التي على رأسها أن الغلبة لهذا الدين، وأن قلوب الخلق في ملك بارئها، وأن هذا المكر، وهذا التدليس، وهذه المداهنة، لا تقوى دقيقة على الصمود أمام عقيدة السماء، إذ يستحيل أن توجد لذة أو نعمة دنيوية تحُول بين المؤمن الموحد وبين العمل لما أعده الله للأخيار مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما أنه يستحيل أن توجد فتنة أو عذاب دنيوي يميت خوف المسلم، ويبدد خشية المؤمن، ويواري وجل المحسن، أمام ما أعده الله للذين أبوا واستكبروا فيها من عذاب أليم وحرمان وخيم.
وقد يحصل أن يغيب هذا الحق عن بعض الأرض ساعة، ذلك أن طبيعته تأبى أن يطأ منبره مريض الغريزة، مشبوه السريرة، صاحب فكر مترهل البدايات، يبني مسلماته على الظنون والشائعات، وتورية الحق والظروف كذلك صنيع فيه ما فيه من الحكمة والتناسبية، إذ ما جدوى وجوده إذا توارى العلم وراء كتبان الجهل، وحجبته بيارق الهوى، وحالت بينه وبين المتعطشين له ستائر الأوهام، فبدا كالماء المفقود والأمل المنبوذ في البيئة اليائسة، والترياق المهمل بين طوائف المرضى والمعلولين، ثم ما جدوى أن تتشدق به أفمام المحرومين من نعيم الاهتداء إلى جادته النورانية، والذين عاشوا أيام العمر تتجاذبهم الأهواء الغالبة، وتميل بهم مقتضيات الطبع الطامسة، وتأخذهم العزة بالأحكام الحائفة.
إن دورة الحق في فلكه بين الثبور والحبور تستجيب لإرادة الله الكونية التي مفادها قول الله تعالى: “وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ” ولذلك فعودة الحق وسيادته تقتضي أول ما تقتضي من أهله، إن هم أرادوا إحياء قوته وإدارة آلته وتقرير مصيره، جهودا دائبة مطردة تصبُّ في خانة الثبات عليه، والدعوة إلى حظيرته والدفاع عن حياضه، وذلك لن يتأتى لهم إلا بإقامة دولته في نفوسهم ابتداء، عسى الله أن يقيمها على جغرافيتهم، حينها فقط، يستطيع أهل الحق أهل المنهج القويم والسبيل المستقيم أن يتصدوا لأهل الإفك وأن يواجهوا أولي العصبة المتجبرين في الأرض بغير الحق، وحينها فقط ستنخنس هذه القعقعات التي نسمعها اليوم وهي تنعت أهل الحق بالظالمين، وتقذف المنهج بالغلو والتطرف وترمي رموزه بالشغب والمناوأة، وحينها فقط ستعود هذه الشهب الحارقة والسهام المارقة ناكصة خاسئة.
والواقع الذي ليس له دافع أن عودة الحق إلى السيادة والغلبة أمر قد أزفت آزفته، ذلك أن الخطاب الحاقد قد انتقل مع فعل المداهنة والتقية وضرب نصوص الوحي من خلال اتهام حملة لواء العلم وأمانة الدعوة والتبليغ، إلى خطاب جريء أصبح لا يتورع عن الانقضاض على النصوص والالتفاف حول المتون النبوية الشريفة التفاف خنق وتكذيب ورفض.
والمرء وهو يرى هذا التطاول السافر الصافق على ما هو قطعي الدلالة والثبوت، عليه أن يقرأ هذا السلوك الشاذ قراءة إيمانية، حتى يتسنى له أن يستنبط النفع والرفع مما هو مدفوع بمكروهيته، فإذا حصل له هذا النوع من الاستنباط الرباني فلا غرابة ولا عجب أن يثمن سلوكيات الأخسرين أعمالا، لأنها ولا شك استدراج دنيوي، ومحض خذلان متبوع بتأديب تربوي يليه قصم سمائي واقع ما له من دافع، سيما والبغضاء قد بدت من أفواه القوم، ولاح لأهل الفراسة ما تحويه صدورهم من غل وحقد وتحامل على الحق ومصادره المقدسة، سيما وأنهم في هذه المرحلة المتقدمة من المواجهة قد انتقلوا من خندق مواجهة زيد وأتباعه، وعمرو وأنصاره، إلى خندق مواجهة ما هو محفوظ برعاية السماء، إلى خندق مواجهة أمة القرآن وأتباع سيد المرسلين، الذي حذر وأنذر الصحب والإخوان من التولي يوم الزحف، فمن استدبر اليوم فقد أوبق وكان من الهالكين، ومن كرَّ فإن العاقبة للمتقين، والخزي والعار والشنار على الذين جاءنا نبأهم وقال في حقهم ربنا وربهم: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً”.