لماذا لم يعط عمرُ الزكاةَ للمؤلَّفة قلوبهم؟
من المعلوم أن المؤلَّفة قلوبهم من الأصناف التي جاء التنصيص عليها في القرآن كما في قوله -تعالى-: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْـمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، فنصيبهم ثابت بالنص القطعي، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عدداً منهم، وفي خلافة أبي بكر الصديق رأى عمر أن يوقف ما كانوا يأخذونه من الزكاة، فاشتكى بعضهـم (عيينـة بن حصين والأقـرع بن حابـس) إلى أبي بكر -رضي الله عنه- ذلك، وعلل عمر -رضي الله عنه- اجتهاده فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذٍ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما)1.
فبادر الخِطَاب الحداثي وصوَّر هذا الاجتهـاد من عمر -رضي الله عنه- على أنه إلغاء للنص وتقديم للمصلحة عليه.
ونحن إذا رجعنا إلى القصة لنقرأها من جديد مع مراعاة الملابسات والظروف المحيطة بها ومع استحضار المناطات المؤثرة في بناء الحكم فسنجد أن عمر -رضي الله عنه- لم يكن مخالفاً للنص وإنما كان متَّبعا له غاية الاتِّباع؛ فإن أوصاف الأصناف الثمانية المذكورة في الآية ليست أوصافاً ملازمة للشخص لا تفارقه حتى يموت، بل هي أوصاف مفارقة وطارئة.
فالرجل قد يكون في وقت من الأوقات فقيراً معوزاً فيعطى نصيبه من الزكاة، ثم يرتفع عنه وَصْفُ الفقر فلا يكون من أهل الزكاة، وعدم إعطائه في هذه الحالة ليس إبطالاً للنص ولا إلغاءً للحكم؛ وإنما تعليق له لارتفاع علته، فكذلك الحال في المؤلَّفة قلوبهم.
فقد يكون الرجل في وقت من الأوقات من المؤلَّفة قلوبهم فيعطى من الزكاة، ثم يرتفع عنه هذا الوصف فلا يعطى منها، وعدم إعطائه ليس إلغاءً للحكم وإنما هو من قبيل انتهائه لانتهاء علته، فعُمَر -رضي الله عنه- إذن لم يلغ الحكم وإنما أوقفه عن أناس محددين ارتفع عنهم الوصف المؤثر في الحكم فلم يعودوا من أهله.
وهذا ما فهمه عمر بن عبدالعزيز (وهو من أشد الناس اتباعا لجده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأحرصهم على التأسي به)؛ ولهذا فإنه رجع إلى تطبيق حكم المؤلَّفة قلوبهم من جديد لـمَّا رأى أن العلة الموجبة لذلك قائمة في بعض الأشخاص2؛ وهو ما يؤكد أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يلغِ نصيب المؤلَّفة قلوبهم ولم يوفقه إلى الأبد.
وبهذا الشرح ينكشف لنا مقدار الخطأ الذي وقع فيه الخطاب الحداثي في تصوُّر وتصوير الاجتهادات العُمَرية، وهذا الخطأ عام وشامل لكل الاجتهادات التي جرى تفعيلها من قِبَلِهم.
القراءة الانتقائية للخطاب الحداثي
لقد مارس الخطاب الحداثي مارس العملية الانتقائية بشكل ظاهر جداً في التعامل مع الاجتهادات العُمَرية، فإنه تغافل عن الآثار والفتاوى المروية عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يسلط الأضواء إلا على قدر يسير جداً مما يمكن أن يستفيد منه.
وهذه الطريقة متنافية مع الآليات العلمية الصحيحة، وهي في الوقت نفسه يمكن أن تؤدي إلى نتائج معاكسة لما توصل إليه الخطاب الحداثي؛ فلو أخذنا بالمنطق الانتقائي الذي مارسه أصحاب هذا الخطاب فإنه يمكن أن نصل إلى أن عمر لم يكن معتبراً للمقاصد ولم يكن يلتفت إليها، وأنه كان يتعامل مع النصوص تعاملاً حرفياً محضاً.
ومن الشواهد التي يمكن أن تورَد مثالاً على ذلك: أنه التزم بتقبيل الحجر الأسود وقال: (أَمَا إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك)3، ومن الشواهد التي يمكن أن تدل على ذلـك: أنه -رضـي الله عنه- قال: (ما لنا وللرَّمَل؛ إنما راءينا به المشركين وقد أهلكم الله، ثم قال: شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نحب أن نتركه)4.
ولو سلَّمنا بأن عمر -رضي الله عنه- كان يقدم المصلحة على النص، واعتمدنا المنطق الانتقائي فإنَّا يمكن أن نصل إلى نتيجة مغايرة لما توصَّل إليه الخطاب الحداثي؛ إذ توصَّل إلى أن عمر -رضي الله عنه- كان يمارس التيسير وإلغاء الأحكام الشرعية تيسراً على الناس، ولكننا يمكن أن نصل إلى أن مذهب عمر يقتضي الزيادة في التشديد على الناس والمبالغة في تنفيذ الأحكام الشرعية إذا رأينا منهم إهمالاً للشريعة وعدمَ إقبال عليها.
ومن الشواهد التي يمكن أن تورَد مثالاً على ذلك: الزيادة في حد الخمر؛ فعن السائب بن يزيد قال: (كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرَة أبي بكر وصدراً من إمرَة عمر، فنقوم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدراً من إمرَة عمر، فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين)5.
ومما يمكن أن يورَد كذلك: التشدد في قضية الطلاق؛ فعن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: (هات من هنَّاتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم)6.
إن كل هذه النتائج خاطئة بلا شك؛ لأنها لم تعتمد على الطريقة الصحيحة في استخلاص الأفكار، ولم تستعمل الآلية الناضجة للوصول إلى الاستنتاجات المستقيمة.
والمنهجية العملية تأبى ذلك كله، وتوجب على الباحث عن الحقيقة أن يجمع أكبر قَدْر من النماذج، ثم يقوم بعملية تحليلية لكل ما كان صحيحاً منها؛ ليتوصل إلى المبادئ العامة المشتركة التي كان لها التأثير في بناء الحكم. (التوظيف الحداثي للاجتهادات العُمَرية.. قراءة نقدية، د. سلطان العميري).
ــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه: البيهقي في السنن: 12968
2- انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد: 5/558.
3- أخرجه: مسلم: 3126.
4- أخرجه: البيهقي في السنن: 9544.
5- أخرجه: البخاري: 6281.
6- أخرجه: مسلم: 1472.