لقد اختتمت الجزء الأول من مقال “أمٌّ هجرها أبناؤها..” الذي نُشر في العدد 17 من جريدة السبيل بطرح سؤال: كيف يمكن استرجاع مجد اللغة العربية؟
فأقول: لو كان لي من الأمر شيء، لدعوت كل طلاب العلم والمثقفين -ابتداء- بل وحملتهم على أن لا يبغوا عن اللغة العربية الفصحى بديلا، في دروسهم وندواتهم ومحاضراتهم وجميع ملتقياتهم، بل وحتى في لقاءاتهم الثنائية، وجلساتهم الحميمية، البعيدة عن طلب العلم والثقافة.
ثم بعد التدرب والتمرن النخبوي، والتمكن الجيد من السيطرة على اللسان، وتعويده التحادث بالعربية الفصحى بينهم، عليهم نقل هذه العدوى الصحية إلى أسرهم، ولكن في مستوى أقل، وأعني به: أن يتكلموا معهم بالعربية الفصيحة، عوض الفصحى.
الفرق بين العربية الفصحى والعربية الفصيحة:
قال الدكتور رفيق حسن الحليمي في مجلة (الوعي الإسلامي)، العدد 413: “فالفصحى مؤنث “أفصح” مثل: كبرى مؤنث “أكبر”، وأما “فصيحة” مثل كبيرة، فهي صفة تلحق بشيء يتمتع بقدر من الفصاحة أقل بكثير أو قليل من الفصحى. وهذا ما تقرره المفاضلة الصرفية أولا، إذ يصبح أحدهم أفضل من الآخر، كقولنا: “هذا رجل كبير، لكن أخاه أكبر منه، وهذه الكلمة فصيحة، لكن تلك أفصح منها”.
فعنصر المفاضلة قائم بين الصيغتين.
وعندما نقول: اللغة الفصحى واللغة الفصيحة، فإننا نعقد مقارنة بين لغتين، وإن شئنا الدقة في التعبير، بين مستويين من الفصاحة، أحدهما “أفصح” أفضل من الآخر”.
وعودا على بدء أقول: على طلاب العلم والمثقفين أن يحادثوا ويتحادثوا مع أهاليهم بالعربية الفصيحة، التي هي مستوى متوسط بين العامية والفصحى، بأن يبدؤوا التحادث في أوقات معينة، ثم يتدرجوا بأن يضيفوا من الحصة الزمنية، وبعد ذلك يحاولون التحادث بها وقت الجد والهزل، حتى حال غضبهم ومناقشاتهم الحادة مع أزواجهم وأولادهم، في بيوتهم وخارجها كما عليهم ألا يخجلوا من استعمالها في كل زمان ومكان، كما لا يخجل المتفرنسون من الرطانة بالفرنسية في كل زمان ومكان.
ولو كان في الأمر نصب ومعاناة، ففي سبيل استرجاع مجد لغتنا، تستحق أن نعاني من أجلها قليلا، بل في سبيل ذواتنا، وفي سبيل كرامتنا، وفي سبيل إسلامنا، ومن أجل أمتنا، ومن أجل مستقبلنا، ومن أجل حضارتنا…
فليس عصيا على أمة سادت العالم قرونا، أن تستعيد ذاتها، لأنها لن تبدأ من الصفر، بل ستبدأ من التراكم التاريخي الذي بحوزتها.. ستبدأ من ماضيها الشريف الحافل بالأمجاد.
فإن ساد هذا التقليد بين هؤلاء الخاصة وأسرهم، استطعنا أن نقضي على الأمية اللغوية فيما بينهم، ولأن الضعيف مجبول على تقليد القوي، كما يقول ابن خلدون، وهؤلاء الخاصة في حكم القوي، بالنظر إلى سلطة المعرفة التي يملكون، فإن العامة ستقلدهم، ومن ثم يسهل نشر استعمال العربية بين عموم الناس، عوض تلك الرطانة التي تؤذي سمع كل غيور على لغته، فلا هي عربية ولا هي أعجمية.
وبعد استئناس العامة بسماع تحادث طلاب العلم والمثقفين باللغة العربية، كما استأنسوا بسماع المسلسلات المصرية والمكسيكية المعربة -وبئس الاستئناس-، يأتي دور الإعلام، الذي يجب أن ينخرط بكليته في هذا المشروع الحضاري الضخم، فيكون حجر الزاوية في نشر الوعي اللغوي، وذلك بأن يقتصر في مرحلة أولى، وهي مرحلة قد تطول بلا ريب، على هجر الألفاظ الأجنبية، وتعويضها بأخرى عربية مثل: السيارة والشاحنة والحافلة والهوائي والمعطف والمكتب وأسماء الألوان وغيرها والهاتف عوض التلفون، وأمين سر المكتب عوض السكرتير، وهكذا…هذا بالنسبة لعامة الناس، حتى يصبح المجتمع كله ورشا لمحاربة الأمية الأبجدية واللغوية والثقافية.
أما النخبة فعليها، كما سلف الذكر، تحريم العامية والرطانة على نفسها، جملة وتفصيلا.
إذن، فعلى الإعلام أن لا يكرس العامية، بدعوى التواصل مع أكبر عدد من أفراد الشعب، وذلك لسببين:
أولهما: لأن هناك عدة برامج تتم إذاعتها بالفرنسية، وهي برامج تمس قطاعات واسعة من المواطنين، ولم يُلتفت فيها إلى الرغبة في التواصل المزعوم.
ثانيهما: لأنه، وكما سبقت الإشارة، قد تم الاستئناس بأفلام غير مغربية حتى من طرف العجائز، فمن الهين ومن باب الأولى الاستئناس بالعربية.
وكي تكتمل الصورة، على الصحفيين أيضا، أن يحسِّنوا لغتهم، وأن لا ينسيهم السبق الصحفي الدور الخطير الذي تلعبه اللغة من الناحية الحضارية.
ثم بعد استئناس العامة باستعمال الألفاظ والأسماء العربية وهجران الرطانة والألفاظ الأعجمية هجرانا مطلقا، سينتقلون بإذن الله، وبعد تعود أسماعهم على العربية من أفواه النخبة، إلى التدرب على العربية الفصيحة، وعندما تصل العامة إلى هذا المستوى من الجهد في استعمال العربية، على الإعلام حينئذ ألا يخاطبهم إلا بها، ولو في مواضيع تهمهم بشكل مباشر، كمحاربة الأمية أو الحفاظ على البيئة، أو في الدعوة إلى عدم تبذير الماء والكهرباء وغيرها من المواضيع الشديدة الالتصاق بهمومهم واهتمامهم.
هذا ومن البداهة بمكان أن يكون للمدرسين قدم السبق في هذا المجال، وأن يكونوا أحرص على استعمال العربية الفصحى والفصيحة داخل قاعات الدرس، خصوصا منهم من كان يدرس أطفال المستويات الدنيا من التعليم، وأقصد بذلك رياض الحضانة والتعليم الأولي وما بعدهما، عوض التسابق المحموم في تعليم الفرنسية الذي تشهده رياض الأطفال الخاصة، مع أن علماء النفس وعلماء التربية يؤكدون على أن لا يتعلم الطفل إلا لغته القومية إلى حين بلوغه الثانية عشرة من عمره، ويجدر التنبيه إلى أن المسألة عسيرة وغير يسيرة، لكن بشيء من العزيمة والصبر سيتحقق المراد بإذن الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ومن أراد العلى عفوا بلا تعب ٭٭٭ قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لأنه ليس بين عشية وضحاها سيصبح الطفل سيبويه عصره، بل لا بد من كثير من المعاناة والتضحية والإخلاص لهذه اللغة، ولابد من العمل بجهد وصبر، من أجل المشاركة في نهوض الأمة، وعدم الاقتصار على البكاء على الأطلال، وتحميل غيرنا سبب الهزائم والنكبات، كفانا تواكلا وسلبية، فنهوض الأمم لا يتأتى إلا بانخراط الجميع فيه، أو على الأقل، كل الغيورين.
هل سنكون أسوأ حالا من اليهود، الذين، مِن لا شيء، أصبحت لهم لغة رسمية، في فلسطين المغتصبة!
وهل ستكون عزيمتنا أضعف من عزيمة أتاتورك الذي حارب كل ما هو إسلامي، إلى درجة أن غير اللغة التركية من حروفها العربية إلى الحروف اللاتينية!