الآية الكريمة (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين…) (المومنون 12- 14) تشير إلى أن الإنسان مر في خلقه من عدة مراحل:
أ- النطفة
بمراجعة قواميس اللغة العربية (لسان العرب وتاج العروس) نجد أن (النطفة)… تطلق على عدة معان:
– القليل من الماء والذي يعادل قطرة.
– صغار اللؤلؤ، ووحدتها نطفة، ونطفة شبهت بقطرة الماء. وجاء في حديث شريف: “فلم نزل قياما ننتظره حتى خرج إلينا وقد اغتسل ينطف رأسه ماء..”.1
الجنين يتعرض لما يحدث للمادة الممضوغة في الفم تماما: تغير آثار الأسنان، تغير الأوضاع، استدارة شكل الجنين، كما يحدث للقمة قبل أن تبلع.
قلت أنا العبد الضعيف، الفقير إلى ربه: يا الله! يا عليم!
انظر إلى الدقة في وصف ترتيب الأحداث!
هل يمكن لعاقل أن يقول بعد هذا: أن القرآن كلام محمد صلى الله عليه وسلم؟
النطفة أنواع ثلاث2:
1- النطفة المذكرة: وهي الحيوانات المنوية الموجودة في المني والتي تفرزها الخصية.
2- النطفة المؤنثة: وهي البييضة التي يفرزها المبيض.
3- النطفة الأمشاج: وهي النطفة المختلطة من الحيوان المنوي الذي يلقح البييضة، أي البييضة الملقحة.
يمكننا أن نخلص إلى التالي: اختار القرآن الكريم إسم النطفة عنوانا لهذا الطور من أطوار التخلق الإنساني. وهو اسم عربي يعني القليل من الماء أو قطرة منه.
يبدأ خلق الجنين من قليل من مائي الأب والأم، ثم يأخذ شكل القطرة في مرحلة التلقيح… وشكل الحوين (تصغير للحيوان) المنوي يشبه السمكة الطويلة، وهذا هو أحد معاني لفظ (السلالة) الذي استعمله القرآن الكريم: “سلالة من ماء مهين”.
بالتلقيح بين الحوين المنوي والبييضة يكون الجنين في شكل نطفة من أخلاط مائي الرجل والمرأة، وما فيهما من أخلاط وراثية، وهذا ما وصفه القرآن الكريم بأنه: (نطفة امشاج)، فجاء معبرا عن الشكل (قطرة)، وعن التركيب المفرد (النطفة)، وعن الأخلاط المجتمعة في (نطفة أمشاج) وأظهر القرآن الكريم أن المرأة محل الحرث حيث تنغرس النطفة في العضو الخاص بالحمل عند المرأة، وهو الرحم. بهذا الانغراس تبدأ النطفة بالتغير لتصبح بعد ذلك (علقة). وبين القرآن أن تلك النطفة تستقر في جسم المرأة في مكان وصف بأهم وصفين يتعلقان بالجنين ونموه وهذان الوصفان (قرار) و(مكين)، يعبران أتم التعبير عن أهم خصائص الرحم ومميزاته3.
ب – العلقة
العلقة في معناها اللغوي -وجمعها علق- لفظة مشتقة من (علق)، وهو الالتصاق والتعلق بشيء ما. والعلق -كما أشار المفسرون- هو الدم عامة، والشديد الحمرة أو الغليظ الجامد. وتطلق العلقة على الدم الرطب. والعلقة دودة في الماء تمتص الدم، تعيش في البرك، وتتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها، والجمع علق4. وفي أثناء عملية الحرث تفقد النطفة شكلها لتتهيأ لتأخذ شكلا جديدا هو: العلقة والذي يبدأ بتعلق الجنين بالمشيمة، وهو ما أسماه القرآن الكريم (العلقة) وهو ما يتفق مع معنى التعلق بالشيء5.
أما إذا أخذنا المعنى الحرفي للعلقة وهو دودة عالقة، فإننا نجد أن الجنين يفقد شكله المستدير، ويستطيل حتى يأخذ شكل الدودة6. ثم يبدأ في التغذي من دماء الأم كما تفعل الدودة العالقة… ويحاط الجنين بماء مخاطي مثلما تحاط الدودة بالماء… وتكون الدماء محبوسة في الأوعية الدموية ولو كان الدم سائلا، ولا يبدأ الدم في الدوران حتى نهاية الأسبوع الثالث وبهذا يأخذ الجنين مظهر (دم جامد) أو (دم رطب)7.
سبحان الخالق، القادر، المقتدر! يا له من تشبيه بالغ الدقة! قل لي بربك! من أنبأ محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا؟
ج – المضغة
المضغة في اللغة تأتي بمعان متعددة: شيء لاكته الأسنان، وفي قولنا مضغ الأمور أي صغارها، وحجمها هو ما يمكن مضغه.
من الناحية العلمية… في هذه المرحلة، يبدو (الجنين) كقطعة لحم حجمها بمقدار ما يمضغ. وهذه اللفظة الواحدة تصف لنا بإيجاز معجز ساحر شكل الجنين بالنسبة إلى: 1- حجمه، 2- شكله، 3- قوامه.
فإذا ألقينا نظرة على الجنين، فإننا نجده يكون في اليومين 23 و24 في نهاية مرحلة (العلقة). ثم يتحول إلى مرحلة (المضغة) في اليومين 25 و26، ويكون هذا التحول سريعا جدا… ويصف القرآن هذا التحول السريع للجنين من طور (العلقة) إلى طور (المضغة) باستخدام حرف (الفاء) الذي يفيد التتابع السريع للأحداث، وقد أوضح علم الأجنة الحديث مدى دقة اختيار القرآن الكريم لتسمية (مضغة) من حيث ارتباطها بالشكل الخارجي للجنين وتركيباته الداخلية الأساسية، فقد وجد أنه بعد تخليق الجنين والمشيمة في هذه المرحلة فان الجنين يتلقى الغذاء والطاقة وبذلك تتزايد عملية النمو بسرعة، ويبدأ ظهور الكتل البدنية المسماة فلقات، والتي تتكون منها العظام والعضلات. ونظرا لتعدد الفلقات التي تتكون، فإن الجنين يبدو كأنه مادة ممضوغة عليها طبعات أسنان واضحة فهو(مضغة)8.
بشكل ملخص فإن الجنين يتعرض لما يحدث للمادة الممضوغة في الفم تماما: تغير آثار الأسنان، تغير الأوضاع، استدارة شكل الجنين، كما يحدث للقمة قبل أن تبلع.
قلت أنا العبد الضعيف، الفقير إلى ربه: يا الله! يا عليم!
انظر إلى الدقة في وصف ترتيب الأحداث!
هل يمكن لعاقل أن يقول بعد هذا: أن القرآن كلام محمد صلى الله عليه وسلم؟
د – تكون العظام
قال الله تعالى: “فخلقنا المضغة عظاما” [المؤمنون14].
يبين لنا هذا النص القرآني أن (مرحلة العظام) تأتي بعد مرحلة (المضغة)، وأن المضغة قد تكونت لديها عناصر هيكلية. وهكذا فإن القرآن الكريم كعادته في إراد الكلمات المحددة… حيث يأخذ الجنين شكل العظام بانتشار الهيكل العظمي في هذه المرحلة. ونلاحظ أن استعمال حرف (ف) في الآية الكريمة يشير إلى أن مرحلة العظام تأتي بعد مرحلة المضغة بفترة قصيرة. لأن حرف (الفاء) يفيد الترتيب والتعقيب، بخلاف حرف ثم الذي يفيد الترتيب والتراخي9.
تعال بنا أيها المتطلع الشغوف إلى معرفة عظمة الخالق من خلال حقيقة أخرى.
روى حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مرَّ بالنطفةِ اثنتانِ وأربعون ليلةً، بعث اللهُ إليها ملكًا. فصوَّرها وخلق سمعَها وبصرَها وجلدَها ولحمها وعظامها. ثم قال: يا رب أذكر أم أُنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يقول: يا رب رزقه، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملَك ثم يخرج الملَك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على أمرٍ ولا ينقص10.
يتخذ الجين -في بدء مرحلة العظام- المظهر الإنساني الذي يميزه عن غيره من الأجنة، وهو ما يصفه الحديث الشريف بكلمة (صورها) ويصعب -قبل اليوم الثاني والأربعين- تمييز الجنين البشري عن أجنة كثيرة من الحيوانات، مع أنه يكون مميزا بوضوح في مظهره، وتبدأ بعض الخلايا غير المتخصصة للجنين في التخصص وتتحول إلى أجزاء وظيفية متنوعة. وينجم عن هذه العملية تكون الأعضاء اللازمة للحياة وتهيئتها، ويصبح سطح الجسم أكثر استواء في مرحلة العظام، ويتخذ في هذه المرحلة مظهرا أكثر استقامة11.
………………………………………………………………
1 – محمد فياض، إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الانسان، ص:66.
2- المرجع السابق، ص:66.
3- المرجع نفسه، ص:83-84.
4- المرجع السابق، ص:86.
5- المرجع نفسه، ص:87.
6- المرجع نفسه، ص:87.
7- المرجع نفسه، ص:89.
8- المرجع السابق، ص:91.
9- المرجع السابق، ص:102.
10- صحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، (2645).
11- د. محمد فياض، إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان، ص:102.