حب الدنيا رأس الخطايا والسيئات, وبغضها والزهد فيها أم الطاعات ولذلك قيل: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها, وقيل: الدنيا كماء البحر من زاد شربا منه ازداد عطشا.
قال سفيان الثوري رحمه الله: “إنما سميت الدنيا بذلك لأنها دنية, وسمي المال بذلك لأنه يميل بأهله”.
ومما لا يحتاج إلى سرد واقعي تكالبنا على الدنيا, وشدة الحرص عليها فهل يخفى على أحد شأنها؟ وهل دب الوهن فينا إلا من حب الدنيا؟ وهل تكالب أعداء الإسلام علينا إلا لما شغلنا بالدنيا عن الدين؟.
نعم فتنا بالدنيا ولم نعمل للآخرة وصارت كل أمانينا وأحلامنا وتصوراتنا -إلا من رحم الله- من نسيج الدنيا, وكأنها دار خلود, وكأننا لم نخلق إلا لجمع حطامها الفاني.
التحذير من حب الدنيا
قال تعالى:”إِِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ” وبين سبحانه وتعالى أن العباد يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة مع أنها خير وأبقى فقال:” بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى” أي: أدوم من الدنيا كما قال القرطبي رحمه الله في تفسيره.
وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذه الآية ثم قال:” أتدرون لما آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها, ولذاتها وبهجتها, والآخرة غيِّبت عنا, فأخذنا العاجل وتركنا الآجل”.
قال مالك بن دينار رحمه الله: “لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟!”.
في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر” قال ابن القيم في بدائع الفوائد: “الدنيا سجن المؤمن فيه تفسيران صحيحان:
أحدهما: أن المؤمن قيده إيمانه عن المحظورات والكافر مطلق التصرف .
الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب, فالمؤمن لو كان أنعم الناس، فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسجن. والكافر عكسه فإنه لو كان أشد الناس بؤساً، فذلك بالنسبة إلى النار جنة”.
وفي البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.
قال الطيبي رحمه الله: “ليست أو للتشكيك بل للتخيير.. والأحسن أن تكون بمعنى بل” انظر الفتح.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا, فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا فيطمئن فيها ولن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر”.
قال علي للحسين رضي الله عنهما: “كن في الدنيا ببدنك وفي الآخرة بقلبك”.
وقال ابن عجلان رحمه الله:” إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة ليكون أنس المنقطعين إليه”.
حقيقة الزهد في الدنيا
قال ابن القيم رحمه الله :”لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها- أي: ستة أشياء- وهي المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل ما دون الله وليس المراد رفضها من الملك فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب وعبدالرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحا لهن وأغناهم، وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد وكان له رأس مال يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء.
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك فهذا من أجمع الكلام في الزهد وأحسنه” المدارج.
ومن ثم فحقيقة الزهد في الدنيا عدم استقرارها في قلب العبد ولذا كان أفضل الزهد اخفاء الزهد كما قال ابن القيم في الفوائد.
وقد قال العلماء قديما:” أهل الورع يخفون ورعهم كأنه عورة”.
حال النبي عليه الصلاة والسلام مع الزهد في الدنيا
عند مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: “لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه”. الدقل: رديء الثمر.
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكِلته ففني”, قولها شطر شعير أي: شيء من شعير كذا فسره الترمذي رحمه الله.
حال السلف الصالح مع الزهد في الدنيا
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “أنتم أكثر صياما وأكثر صلاة وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرا منكم، قالوا: لما يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة”.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في الصحيحين عن خباب بن الأرث رضي الله عنه قال:” هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله تعالى فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، قتِل يوم أحد وترك نمرة( كساء ملون من صوف) فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر (نبت معروف طيب الرائحة)..”.
قال بعضهم:
النفس تبكي على الدنيا قد علمت أن السعادة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها