الموت لا يقرع بابا، ولا يهاب حجابا، ولا يقبل بديلا، ولا يأخذ كفيلا، ولا يرحم صغيرا، ولا يوقر كبيرا.
الموت كما قال القرطبي رحمه الله: هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع.
فإن أمرا يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، لهو الأمر العظيم، والخطب الجسيم، ولذا على المرء أن يضع الموت نصب عينيه، ولا يغفل عنه، ولا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة.
فإذا كان الموت مصيبة كما قال تعالى: “فأصابتكم مصيبة الموت” فإن الأعظم منه مصيبة: الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل له.
والموت كما قال العلماء فيما نقل عنه السيوطي رحمه الله في رسالته “بشرى الكئيب بلقاء الحبيب”: “ليس بعدم محض، ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار”.
وقد اجتمع في الموت ما لم يجتمع في غيره:
1ـ هو حق لا ريب فيه ولا شك، كما قال تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً”، وقال تعالى: ” إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ” وقال تعالى: ” كُلُّ مَن عَلَيْهَا فَان وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ”، وقال تعالى: ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ”.
وقد قُررت هذه الحقيقة في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بطريقة القياس، من ذلك قوله تعالى: “كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” فكما أننا لا نشك في العمل الذي هو بمثابة الموت فلا شك في الموت الأكبر.
وسن لنا النبي صلى الله عليه وسلم عند الاضطجاع على الفراش أن نقول: “باسمك اللهم أموت وأحيا” وعند الإستيقاظ أن نقول: “الحمد الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور” كل ذلك قياسا للموت الأكبر على النوم الذي لا نشك فيه والذي هو بمثابة الموت الأصغر، وما ذاك إلا للدلالة على أننا سنموت كما ننام وسنبعث كما نستيقظ.
2ـ وقته مجهول قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت”.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: “أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أو بر أو سهل أو جبل”.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مفاتح الغيب خمس لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما يكون ببطن الأرحام إلا الله، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأرض تموت ولا يعلم أحد متى يجيء المطر ثم تلا الآية”.
ومما يستأنس به ما جاء في مدارك التنزيل للنسفي رحمه الله أن أبا جعفر المنصور رأى في المنام ملك الموت فسأله عن أجله فأشار إليه الملك إلى الخمس، فقام أبو جعفر فزعا خائفا، فنادى الحرس فقال: علي بأبي حنيفة فجاء الإمام رحمه الله، فحكى له أبو جعفر ما رأى يريد تعبيرها ومعرفة أجله، فقال له أبو حنيفة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين يقول لك “أي الملك” خمس لا يعلمها إلا الله”.
3ـ وقوعه قريب ثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا طويلا في الأرض وقال هذا الإنسان ثم خط خطا قريبا منه وقال هذا أجله، ثم خط خطا بعيدا فقال: هذا أمله، فبينما هو في أمله إذ جاءه الأقرب (أي: الأجل) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك”.
فمن اعتبر الساعة التي تأتي من أجله فما نزل الموت منزلته.
ولأجل أهميته حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار من ذكره كما في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أكثروا ذكر هادم (هاذم) اللذات الموت”.
فالهادم: بالدال المهملة هو الذي يزيل الشيء من أصله ولا يبقي له أثرا، وهذا هو حقيقة الموت حيث يقطع الحياة ولا يبقي لها أثرا.
أما الهاذم: بدال معجمة هو الذي يفرق الشيء وهذا هو الموت كذلك حيث يفرق الحياة عن البدن.
والسبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لنا بالإكثار من ذكر الموت أنه حياة للقلب كذكر الرب جل وعلا، فقد أمرنا بالإكثار من أمرين من ذكر الله عز وجل ومن ذكر الموت، لأن كلا منهما يرقق القلب ويجعل الإنسان ينيب إلى الله ويتعلق به، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يُذِّكر أصحابه بالموت – وفي ذلك تذكير لنا- في كل ليلة قبيل الفجر، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: “يا أيها الناس أذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه” أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه وأقره عليه الذهبي.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أكيس الناس وأكرمهم أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة فقال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال: أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة” رواه ابن ماجة وغيره وسنده جيد كما قال العراقي في تخريج الإحياء.
وللإكثار من ذكر الموت فوائد منها:
ـ تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة.
قال الدقاق: “من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة”.
ـ المكثر من ذكر الموت لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود.
قال التيمي: “شيئان قطعا عني لذات الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى”
ـ الإكثار من ذكر الموت سبب لقصر الأمل، فهذا معروف الكرخي قدم أحد الناس ليصلي بهم صلاة الظهر، فقال الرجل: لو صليت بكم صلاة الظهر لا أصلي بكم صلاة العصر، فجذبه معروف وقال له: نعوذ بالله هذا طول أمل.
ـ ذكر الموت هو في حد ذاته موعظة، فمن لم يتعظ به فلا موعظة له كما قال القرطبي، ولذلك كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.