خطر إعجاب المرء بنفسه وعلاج ذلك

للنفس البشرية طرائق تميل بها مع الهوى، ومســارب تنــفُذ من خــلالها نحــو الهلاك، واللبيــب الموفــق مَن زمَّ نفسه بزمــام التقـــوى، وجاهـــدها بلـــزوم الإيمــان، ومراقبة الرحمن، فبذلك يفوز ويُهدى، ويسلم وينجح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ}.

ألا وإن من أدواء النفس الخفية، والتي يحتاج صاحبها يقظة على الدوام، حتى يسلم منه: داء (العُجب بالنفس) فقد يمن الله على بعض عباده بنعمة من النعم، من علم، أو مال، أو جاه، أو موهبة حسنة.. فيحسب غير الموفق من أولئك أنه ابن بَجْدتها، فربما صعَّر خده للناس، ونأى بجانبه عنهم، واستنكف عن قَبول الحق، وهذه مَهلكة ومَزلَّة قَدَم، وما يؤذي فيها المرء إلا نفسه، والمرء إذا لم يلحظْ نفسه، فإنها تقوده إلى العطَب.
وإن علاج ذلك الداء يسيرٌ على من يسره الله عليه، وذلك متمثِّلٌ في أمور:
أولاً: أن يعلم العبد أن هذه النعمة إنما هي محض توفيق الله، وأنه ليس لنفسه في ذلك الفضل شيءٌ، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، وأنه لولا الله لكان هملاً مضاعاً، ساقطاً مزدرى، ولكن الله هو الذي أنعم وتفضل، ووهب وامتن، كما قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً}.
ولذا كان من الدعاء النبوي الذي ينبغي للمسلم أن يقوله طرَفَي النهار: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرْفَة عين».
قال الرازي: “والذي جربته من أول عمري إلى آخره، أن الإنسان كلما عوَّل في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة والشدة والرزية، وإذا عوَّل العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه، فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عُمُري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه.. ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه».
ثانياً: أن يعلم أن بقاء هذه النعمة منوط بشكرها، وشكرُها يتحقق بمسكنة العبد وفاقته إلى ربه، فكلما زادت النعمة على العبد كلما تحتَّم عليه أن يزيد افتقاره للخالق، وتواضعه للخلق، فمهما بلغ العبد من الصلاح والديانة، فإنه لا ينبغي له أن يدَّعي الكمال، بل يذل لربه، ويعترف بتقصيره وظُلْمه لنفسه، فإذا رأيت الرجل كلما ارتفع كلما زاد افتقاره والتجاؤه لربه، وانكساره له، فاعلم أنه قد تفيأ ظلال التوفيق، وأخذ منه بسبب متين، وآوى فيه إلى ركن شديد.
ومن تأمَّل حال الكُمَّل من الخلق، يلحظ أنهم قد أخـذوا من هذه الأمور بحظ وافـر، فهـذا آدم وزوجـه عليهمـا السلام يقـولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْـخَاسِرِينَ}، وقــال نـوح عليـه السلام: {وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْـخَاسِرِينَ}، وقـال إبراهيم الخليل عليـه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، وقـال الكليم موسـى عليـه السـلام: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}، وقــال يونـس عليـه الســلام: {لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِـمِينَ}.
قال ابن القيم: “فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، ..وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً”.
وقد ضرب الإمام أحمد في هذا المعنى بسهم وافر؛ فمن ذلك:
– قال يحيى بن معين: (ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيءٍ مما كان فيه من الخير).
– وقال الـمَرُّوذي: (قلت لأبي عبد الله: إن بعض المحدِّثين قال لي: أبو عبد الله لم يزهد في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس! فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ).
– وقال أيضــاً: (سمعت أبا عبد الله أحمــد بن حنبل رضي الله عنه وذكر أخلاق الورعين، فقال: أسأل الله أن لا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟).
– وقال أيضاً: (قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعين لك! فتغرغرت عيناه، وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً).
وقال محمد بن موسى: (رأيت أبا عبد الله، يعني الإمام أحمد وقد قال له خراساني: الحمد لله الذي رأيتك، قال: اقعد، أي شيء ذا؟ من أنا؟
وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي: (قلت لأبي عبد الله أوَّلَ ما رأيته: ائذن لي أُقبِّل رأسك، فقال: لم أبلغ أنا ذلك).
ثالثاً: أن يعلم العبد أنه متى أُعجب بنفسه فثَمَّ الخذلان، وضياع الشأن، وهذه حوادث تنْبئ بهذا:
الأولى: ذكرها الماوردي (أحد علماء الشافعية) عن نفسه، فقال: (ومما أنذرك به من حالي، أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت فيه ما استطعت من كُتُب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أُعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعاً بعلمه، حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان، فسألاني عن بيعٍ عقداه في البادية، على شروط تضمنت أربع مسائل، لم أعرف لواحدة منها جواباً، فأطرقت مُنْكراً، وبحالي مُفَكِّراً، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب، وأنت زعيم هذه الجماعة؟ فقلت: لا. فقالا: واهاً لك! وانصرفا، ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي، فسألاه، فأجابهما مسرعاً بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه، حامدَين لعلمه، فبقيت مرتبكاً، وبحالهما وحالي معتبراً، فكان ذلك زاجر نصيحة، ونذير عظة؛ تَذلَّلَ بهما قيادُ النفس، وانخفض لهما جناحُ العجب، توفيقاً مُنِحتُه، ورشداً أُوتيتُه…).
الثانية: قال عبيد بن شريك: (كان أبو معمر القطيعي من شدة إدلاله بالسُّنة يقول: لو تكلمت بغلتي لقالت: إنها سُنِّية. قال: فأُخذ في المحنة؛ فأجاب، فلما خرج، قال: كفرنا وخرجنا!).
نسأل الله تعالى أن يُصلح لنا شأننا كلَّه، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، كما نسأله أن يجنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، وأن يقينا شر أنفسنا والشيطان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *