من المعلوم بيقين أن من أكبر أسباب الابتداع في الدين هو الانحراف عن فهم النصوص، وما انحرفت الخوارج إلا لانحرافهم في فهم نصوص الوعيد، والضابط لهذا الفهم هو فهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ثم أتباعهم من أصحاب القرون المفضلة، ولذلك احتج عليهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله لما ناظرهم: “ولم يكن فيكم أحد ممن صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ح: 18678 والنسائي في الكبرى ح:8575 وصححه ووافقه الذهبي.
يعني ليدُلهم على الفهم الصحيح لهذه النصوص، ويقوِّمُ ما اعوج من فهومهم للفهم الصحيح، وما الشبهات التي تحرف الناس عن الحق إلا بسبب الخطأ في الفهم للدليل الشرعي، فيفهمه على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكم من منكر قولاً صحيحًا — وآفته من الفهم السقيم
ومن أمثلة الانحرافات في فهم النُّصوص عند بعض المتقدِّمين:
مانعو الزَّكاة:
زعموا أنَّ قولَه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103] يدل على أنَّ الزَّكاةَ تُدْفَعُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقط، فإذا مات فلا زكاة.
ولذلك قاتلهم الصِّدِّيقُ رضي الله عنه على منعها.
والقرامطة الباطنية:
فسَّروا الصَّلاةَ: بصلة الدَّاعي إلى دار السلام.
والزكاة: بإيصال الحكمة إلى المستحق.
والصيام: بكتمان أسرارهم.
والحج: بالسفر إلى شيوخهم.
والجنة: بالتَّمَتُّع في الدُّنيا باللَّذَّات، والنَّار: بالتزام الشَّرائع والدُّخول تحت أثقالها.
وباطنية الفلاسفة فسَّروا الملائكة والشَّياطين: بقوى النَّفس الطَّيِّبة والخبيثة.
وأنَّ نصوص المعاد والبرزخ والجنة والنار أمثال مضروبة لتفهيم العوامّ، ولا حقيقةَ لها عندهم.
والمعتزلةُ: فسَّروا قولَه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أي: جرحه بأظفار المحن ومخالب الفتن. (الكشاف 1/624).
وبعضُ غلاة الصُّوفيَّة فسَّروا قولَه تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]؛ أي: حتى تبلغَ درجةً معيَّنةً في الاقتراب منه، فإذا وصلتها فقد ارتفع عنك التَّكليف.
وأن معنى قوله: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:18]: إلى الأرواح كيف جالت في الغيوب، {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:91] أشار الله تعالى إلى قلوب العارفين كيف أطاقت حملَ المعرفة. (حقائق التفسير للسلمي 365).
ولما سُئل بعضُهم عن الحجَّة في الرَّقص؟ قال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]. (سير أعلام النبلاء 23/225).
وفسَّرَ بعضُ الغلاة البقرةَ المطلوبةَ للذَّبح في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] بأنَّها عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها.
وأنَّ المقصودَ بقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] علي وفاطمة، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] الحسن والحسين.
والشجرة الملعونة في القرآن: بنو أمية.
وفسر بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا نَبيَّ بعدي» (البخاري ومسلم)، بأنَّه تبشيرٌ بنبيٍّ سيأتي بعدَه اسمُه (لا)!!
وقال بعضُهم: إنَّ حديثَ: «مَنْ بَدَّلَ دينَه فاقتلوه» (البخاري)، يَدْخُلُ فيه: مَن انتقل من اليهوديَّة أو النَّصرانية إلى الإسلام؛ وأنه يجب قتلُه!!
فظاهرةُ تحريف معاني النُّصوص الشَّرعيَّة لم تنقطع عبرَ الزَّمَن، ولا تزال مستمرَّةً حتى وقتنا الحاضر. (للتوسع في ذلك ينظر كتاب جناية التأويل الفاسد د. محمد لوح).