من نفيس المأثور عن الأسلاف رضوان الله عليهم قول بعضهم: “ما العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا”1.
ومن أسباب ذلك معرفة آثار الفتن المضلة وأضرارها لما لذلك من أهمية غاية في تَحْقيق الحصانة، وتَحَقق النجاة والسلامة، فقد قيل: “ليس يتقي من لا يدري ما يتقي؟!”2، إضافة إلى أن المقام مقام النظر في النتائج والمآلات، لأنه “ينبغي أن يكون شُغل العاقل النظر في العواقب والتحرز مما يمكن أن يكون”3.
فالذي لم يشهد شهود آثار الفتن وعوائد المحن، ربما تلطخ بشيء من ذلك فأَضر نفسه، وأَفسد مسلكه، ولعله يُضل غيره، فتمهل -يا رعاك الله- ولا تتعجل(!!) فـ”ويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه”4.
فمن آثار الفتن (الغفلة عن العبادة)! حيث أن عموم الناس زمن المحن تصبح حياتهم وأوقاتهم مشغولة بالقيل والقال.. ونفوسهم مشوشة.. وقلوبهم مضطربة.. ووجوههم كالحة.. مع أن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: “بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم”5، و”معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر”6.
وقد لاح الله باللائمة على من لم يحرص على الاستكانة والتضرع إليه تعالى عند حلول المحن وحدوث الفتن فقال سبحانه: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون).
ومن آثار الفتن (صرف الناس عن النقل المصدق والبحث المحقق)! ففي زمن التغيرات تذهل النفوس عن النصوص، فلا ترى -عموما- الصواب في العلم (دلالة اللفظ)، بله التحقق في الفهم (دلالة اللحظ)..
مع أن العلم مع الفهم نور متى فقده القلب صار صاحبه “بمنزلة الحيران الذي لا يدري أين يذهب! فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يؤم كل صوت يسمعه!!”7.
ومن قبيح آثار الفتن (فتح الباب لتصدر السفهاء)! حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء”8، فيتصدرون ويلقون الأحكام، ويطلقون الأقوال جزافا، بلا حلم ولا علم، وإنما بحماسة محضة، وعاطفة مجردة، فيمتطون مَرْكِب الأحداث لنشر مذاهبهم وتكريس معتقداتهم الباطلة(!!) “وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله”9. وصدق الله حيث قال: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
ومن آثار الفتن أيضا (الانتهاء إلى مآلات سيئة)! في الفكر والتصور والمسلك وربما فيما هو أعظم من ذلك، والذي (يتأمل في النصوص الشرعية)، و(ينظر في الأقوال السلفية)، و(يتلمح الأفعال الأثرية)، و(يستشرف المستقبل بروية)، و(يسبر الماضي برؤية نقية) يعلم هذه الحقيقة، ويقف وقفة مديدة..
وقد سطر لنا التاريخ بوضوح حال من شارك في بعض الفتن -باجتهاد وتأويل- وأن نهايتهم الندم والتوجع، وتمني لو كان منهم التورع..
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال”10.
واعلم أنه (من دخل في الفتن انحط قدره)! وهذا بدوره من آثار الفتن ومن نتائج المحن، فإن من خاض غمار الفتن والمتشابهات وإن كان باجتهاد وحسن مقصد نقص قدره وسقط شأنه بحسبه، بخلاف من تجنبها وعلم بحق كيف يتعامل معها فإن مقامه -ولو في النفوس- يَرتفع، والناس بعلمه وفقهه تَنتفع..
قال عبد الله بن عون رحمه الله: “كان مسلم بن يسار عند الناس أرفع عند أهل البصرة من الحسن -أي: البصري- فلما وقعت الفتنة خف مسلم فيها -أي: دخل فيها-، وكف الحسن -أي: تأخر وأمسك- فأما مسلم فإنه اتضع -أي: عند الناس- وأما الحسن فإنه ارتفع”11.
ومن آثار الفتن (اشتباه الأمور واختلاط الحق بالباطل)!
ففي زمن الإحن تتغير النفوس، وتُحدق الشرور بالناس، وتصبح الأمور مشتبهة كما قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: “إن الفتنة إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت تبينت”12.
ولْنَتَذكر -جميعا- أن الفَجْرَ فَجران(!) والكاذب -منهما- أولهما، وأسبقهما(!!)
فما كُلُّ بَرْقٍ لاحَ لي يَستفِزُّنِي **** ولا كُلُّ مَن لاقَيْتُ أرضاه مُنْعِما
وليعلم أنه عند الاشتباه يُرجع إلى الأمر العتيق وفق النظر الدقيق والتحقيق، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “إنَّها ستكون فتنة. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟! أو كيف نصنع؟ قال: ترجعون إلى أمْرِكم الأول”13.
وكثيرا ما (يُغرر بالشباب) زمن الفتن، وأيام الوهن(!) وهذا من آثار الفتن القبيحة كذلك لما يحصل من جراء ذلك من الاستدراج بهم عبر خطوات -مع تلقف الشبهات- إلى وقوع الورطات، وعليه ينبغي على الشباب أن لا يغتر بالدعايات التي ترفع والشعارات التي تثار والعبارات التي تُدبَّج ونحو ذلك.
مع العلم أنه زمن الفتن واختلاط الأمور ينبغي أن نسير فيه وفق القواعد المحكمة التي قررها الأكابر من العلماء14 فقد قال عليه الصلاة والسلام: “البركة مع أكابركم”15، فافهم وإياك والوهم.
ومن الآثار الوخيمة للفتن والإحن والمحن: (إضعاف الأخوة الإيمانية)! ويا لها من بلية، وما أشنعها من رزية.
ولْيُتَنبه -هنا- إلا أنه لا يُدْعى فقط إلى تحقيق الأخوة، بل الواجب أن نحرص -دينا وشرعا- على عدم مواقعة -قدر المستطاع- ما يفككها ويؤثر فيها، والله المستعان، ففي الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: “كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فقلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن”16، وجاء في بعض الروايات -وهو الشاهد- قال: “لا تَرجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه”17.
وأيضا من عواقب الفتن وآثارها (الجرأة على الدماء)! والأفظع في الأمر الاستهانة بها بين المسلمين أنفسهم (!!)، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصدق ابن عمر رضي الله عنه لما قال: “في الفتنة لا ترون القتل شيئا”18، ومن المأثور عنه أيضا لما كتب إليه رجل أن اكتب إلي بالعلم قوله: “إن العلم كثير -يا ابن أخي- ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازما لجماعتهم، فافعل”19.
ومن آثار الفتن المضلة (اختلال الأمن)! فلا شك أن اضطراب الأحوال تؤدي إلى ذلك.
فمن المعلوم في الشريعة أن الأمن والأمان لا يتحققان، ولن يتحققا إلا بتحقيق الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ).
وفي ذلك قال الشاعر:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان **** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين **** فقد جعل الفناء لها قرينا
وإذا كان الأمر كذلك، فكذلك لا سبيل لتحقيق الإيمان والعمل الصالح وعبادة الله جل وعلا إلا في ظل الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار.
وعليه كان الحفاظ على أمن المجتمعات من أجلِّ مقاصد الشريعة، ومن أعظم مصالحها الكبرى، بل هو رأسها وأساسها، لأن فقده عنوان الرزايا، ومفتاح البلايا، حيث يعم الاضطراب، وتشيع الفوضى، وتتمزق المجتمعات، وتضيع الطاعات، وتغيب شعائر رب الأرض والسماوات.
قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
واعلم بعد هذا كله أن ظهور الفتن وتفشيها سبب يفضي أيضا إلى (تسلط الأعداء)! وهذا من جراء حصول الافتراق، وحدوث الشقاق، فيستغل الأعداء هذه الفرصة ويتسلطون علينا، ويضغطون علينا بأنواع من الضغوطات، وقد قال الله سبحانه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام”20.
فنعوذ بك ربنا من ذل التراب، وأسباب الخراب، ونسألك أن توفقنا للتمسك بالسنة والكتاب، والسير على نهج السلف أولي الألباب، وأن تعيننا على تعلق قلوبنا بك بلا شك ولا ارتياب.
…………………………………
1. لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله 364.
2. قاله الإمام أحمد رحمه الله كما في الجامع للخطيب رحمه الله 1065.
3. صيد الخاطر 86.
4. مقطع من حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أخرجه الإمام ابن ماجة رحمه الله في سننه 237، وحسنه الإمام الألباني رحمه الله في الصحيحة 1332.
5. أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
6. شرح مسلم للنووي رحمه الله 2/133.
7. مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله 1/410.
8. منهاج السنة النبوية 4/187.
9. نفسه.
10. نفسه 4/316، والعجيب أن البعض استدل بصنيعهم -هذا- على (تجويز) أو (مشروعية)! بعض المسائل مع قُرحة في النظر والدلائل (!!)
11. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 11/128 وابن سعد في الطبقات 7/125، وابن عساكر في تاريخه 58/146 وسنده صحيح.
12. تاريخ الطبري 3/26.
13. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والأوسط وهو صحيح كما في السلسلة الصحيحة رقم: 3165.
14. المراد بالأكابر هنا: الكبراء في العلم وإن صغر السن كما قرره جماعات، فكيف لو جُمع للمرء بين كبر العلم والسن حيث هذا الأخير مع رفيقه من دلائل (تخمر المسائل العلمية واحتراقها وجودة الأفهام)، و(كثرة التجارب على مر الأيام)، و(التحلي بالتؤدة وعدم العجلة وثبات الأقدام)..، مع التنبه أنه “رب شيخ شاب، ورب شاب شيخ”!
وتأكيد ضرورة الرجوع لما قرره الأكابر -مع تقدم اعتبار الأدلة الشرعية والقواعد المرعية في منهج الاستدلال- لا يلزم منه حصر النظر في أقوالهم وفتاويهم كما يظن بعض الخلق! فضلا عن التعصب لهم على خلاف الحق!، لكن الغرض مراعاتها أصالة من جملة الفتاوي المطروحة في البحث العلمي (لعلو مكانتها نوعا)، و(لوجودها عينا) خاصة في بعض المسائل فتأمل وبالعلم تجمل.
ولذا ينبغي التفريق بين اعتماد كلام الأكابر لمجرد أنهم أكابر (!) والتمسك بتقريراتهم الأثرية، وقواعدهم العلية، وأنظارهم النقية..
15. أخرجه ابن حبان رحمه الله 559، وهو في الصحيحة 1778.
16. متفق عليه.
17. أخرجه أحمد رحمه الله وغيره، وهو في الصحيحة 2739.
18. أخرجه الإمام أحمد رحمه الله 4871.
19. تاريخ دمشق 31/170، وسير أعلام النبلاء 3/222.
20. مجموع الفتاوي 3/421.