أطلت علينا فئة متبلِّدة تابعة ومستتبَعة تبغي الصلاح بالإفساد، وتروم الفساد بالإصلاح، مؤسسة ومدافعة عن شؤم قطع الوصل بلغة التنزيل،ومنافحة عن خرق صوان لسان الحكمة، تدعي -بهتانا- عكس الفساد والدَّفع بالنشء إلى حيث مقام الشاهدية، وكل ذلك منها بهتانا وزورا.
فئة وظفت الجاهل وشبهه تشهيرا لها ودعوة إلى فكرها كلمةً وصورةً وصوتاً، علَّها تحقق شيئا مما تقصده. ونحن في هذا المقام وغيره سنكشف هذا الفساد ونعري مدخله تأصيلا للقضية في الشرع ثم ربطا لها ببقايا المحتل ضد لغة القرآن والعود إلى أصل الفساد وبدئه ثم إلى بيان أن قاطع الصلاح في عكس ذلك.
1- تأصيل القضية في الشرع
من أشد ما عابه الوحي على أعداء النور أنهم لمَّا نُهوا عن الفساد في الأرض ازدادوا تشبثا بفسادهم ودفاعا عنه، بل وادعاء أنه هو الصلاح وكل الصلاح، في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} البقرة:11-12.
فالآية أبانت أن دفع النصح إليهم كان بصيغته العامة في مقابل عموم فسادهم في كل شيء وعموم إفسادهم لكل شيء، فكان جوابهم في قوة العبارة والدلالة مماثلا لعبارة النصح بل أقوى،إذ قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} بما تضمنه التعبير من توكيد وحصر وثبات على قصد ومراد الصلاح -زعموا- بل تجاوزوه إلى الإصلاح وكأنهم ما قصدوا بكلامهم إلا مجابهة ومقاومة الناصحين.
ومن نكت القرآن في هذا “تقييد الفعل بالظرف، فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محلَّ المذمة هو أنهم يقولون إنما نحن مصلحون مع كونهم مفسدين، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائله أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم: لا تفسدوا في الأرض، فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفَن الرأي، لأن شأن الفساد أن لا يخفى، ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة، وجهل فوق جهل”1 أو أعظم.
إذ مقتضى الطبيعة أن الفساد يُعرف بل قد يُشم من بعيد، وعلى فرض خفائه فإنه بعد التنبيه إليه يُستشعر وجوده فيطلب التصحيح والتقويم. وأما مع كل هذا بقاء على فساد ودعوة إليه فيه إنباء العقل والروح والشعور بفنائه، ولذلك سيكذبهم الله عز وجل بعد ذلك وينفي شعورهم في قوله: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ).
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستأتي على الناس سِنُون خدَّاعة يُصدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الصادق، وينطق فيها الرُويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة)2.
والرويبضة تصغير الرابضة وهو العاجز الذي رَبَضَ عن معالي الأمور وقعد عن طلبها، وزيادة التاء للمبالغة3.
والحديث هذا داخل في عموم إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن غيبيات الأمور الواقعة -بلا شك- في الناس وللناس ومع الناس من تناقض وتبدُّل واختلال في الخلق والأدب بل وفي العبادة والعقيدة.
فهذا الرويبضة -المفسر وحيا بالسفيه- يتكلم في الأمور العظام وفي مصائر الناس ومآلاتهم، مما لا يفقه فيه شيئا ولا يدرك عنه شيئا ولم يتبين منه شيئا إلا ما أملاه عليه شيطانه الإنسي قبل الجني وعشقه للتشهر والبروز، ثم إن ذكره عليه الصلاة والسلام لأداة التناقض والتبدل والاختلال (ينطق)، إشارة إلى أن غاية ما يستطيعه الرويبضة هو الكلام والهدر ثم الكلام والهدر ثم الكلام والهدر.
إن هذين النصين الشرعيين -منطلق القول- يكشفان في الحقيقة عمقَ المطابقة ودقتَها بين الفئة التي كشفها الوحي وبين ما صدر ويصدر عن هذه الفئة البالغة غاية في الجهل والمكر، إذ كما أن أولئك استحقوا تلك المذمة وأقساها لما بلغوه من الجهل وفقد الشعور المميِّز بين الصلاح والفساد، ولذلك لما نُهوا عن منكر الإفساد في الأرض وقفوا في مجابهة النصح رفضا له وإثبات الصلاح لأنفسهم، في إشارة إلى اعتقادهم أن نصح الناصحين ونهي الناهين إنما هو عين الفساد، وفي ذلك من التبديل والتحريف ما يبلغ النهاية.
فإن هؤلاء لما نُهوا عن قصد إفسادهم للغة العربية/لغة الوحي، وقفوا في جواب واحد إن الصلاح في تعميم اللسان الدارج (العامية المغربية) على كل مستويات الدراسة، وأن الفساد -في زعمهم- في البقاء على التدريس باللغة العربية وأنها -في ربط بئيس جهول-السبب كل السبب في الانقطاع عن المدرسة.
ـــــــــــــــــــ
1- التحرير، ج 1، ص 283، محمد الطاهر بن عاشور (رحمه الله).
2- مسند الإمام أحمد (رحمه الله)، ح 7852.وغيره.
3- النهاية في غريب الحديث والأثر،ج2، ص 185، ابن الأثير (رحمه الله).