طاعة أولي الأمر في ميزان الشرع 3/3

طاعة العلماء:
لا طاعة ولا اتباع للعلماء في مخالفة قواطع الشرع ولا في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل. وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم طاعتهم في مثل ذلك عبادة لهم مع الله أو من دونه، وعدها من الشرك الأكبر؛ إذ بذلك يُتخذون أربابا شركاء لله في التشريع وفي التحليل والتحريم، كما كان شأن النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
قال تعالى: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا أن يعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يُشركون” (التوبة31).
قال الشيخ السعدي: “يحلون لهم ما حرم الله فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل الله فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها”1.
وفي الحديث الصحيح “أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم
الطائي -وكان قد تنصر في الجاهلية-، فقال يا رسول الله لسنا نعبدهم، قال: “أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه”؟ قال: بلى، قال: “فتلك عبادتُهم”2.
فانظر أن النبي صلى الله عليه وسلم “قد فسر اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله بأنه ليس معناه الركوع والسجود لهم، وإنما معناه طاعتهم في تغيير أحكام الله وتبديل شريعته بتحليلهم الحرام وتحريمهم الحلال، وأن ذلك يعد عبادة لهم من دون الله؛ حيث نصبوا أنفسهم شركاء لله في التشريع، فمن أطاعهم في ذلك؛ فقد اتخذهم شركاء لله
في التشريع والتحليل والتحريم، وهذا من الشرك الأكبر؛لقوله تعالى في الآية: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)..”3.

فالحاصل أن طاعة العلماء إنما تكون في المعروف، وهو كل ما وافق شرع الله تعالى. أما ما خالفه، بتحليل حرامه، أو تحريم حلاله؛ فهو خارج عن مقتضى المعروف، ويحرم طاعتهم فيه.
طاعة الأمراء
تجب علينا طاعة الأمراء، والصبر عليهم، ويحرم علينا إثارة الناس ضدهم ومنابذتهم والخروج عليهم بالانقلابات والثورات ونحو ذلك، إلا إن ظهر منهم كفرٌ بواح، مع القدرة على خلعهم دون وقوع مفاسد في الدماء والأعراض ونحوها، أعظم من مفسدة توليهم الأمر.
قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”( النساء59. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة”4. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عليك السمعُ والطاعةُ؛ في عسرك ويُسرك ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك”5.
ـ وحتى إذا لم يعدل الأمراء أو بخسوا الرعية حقوقها، فإنه يتوجب الصبر، و يحرم الخروج عليهم. ففي الحديث عن أبي هنيدة؛ وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: سأل سلمةُ بنُ يزيد الجُعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراءُ يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم”6.
أي: أن الأمراء عليهم ما حملوا وما كُلفوا به من إقامة العدل في الرعية، فإن أخلوا بواجبهم لحقهم الوزر، وأن الرعية عليها ما كُلفت به من السمع والطاعة.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: “إنها ستكون بعدي أثرة، وأمورٌ تنكرونها”، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمرُ من أدرك منا ذلك؟ قال: ” تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم”7.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”من كره من أميره شيئا فليصبر؛ فإنه من خرج من السلطان شبرا؛ مات ميتة جاهلية”8.
فطاعة ولاة الأمور واجبة فيما أمروا به من أمور وأنظمة. لكن هذه الطاعة يجب أن توزن بالميزان الشرعي: “إنما الطاعة في المعروف”، ومن ثم فإنهم لا يُطاعون فيما هو خارج عن نطاق المعروف، وتسقط طاعتهم إذا أمروا بمنكر أو شر أو فساد أو معصية لله تعالى أو لنبيه صلى الله عليه وسلم، كسن قوانين مخالفة لشرع الله تعالى حيث تحلل الحرام، أو تحرم وتمنع ما أوجب الله . قال عليه الصلاة والسلام: “على المرء المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحب وكره؛ إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة”9.

ـ وفي حال خالف الأمراء الشرع، فإنه يتوجب على العلماء القيام بواجب البيان والتبليغ والنصح وفق الضوابط الشرعية، وأن يتوسلوا بمختلف الوسائل المشروعة والممكنة لإيصال خطابهم.
وليس لهم أن يصمتوا أو يتجاهلوا الأمر، بله أن يسوغوا الباطل ويقروا المنكر استجابة لأهواء الأمراء، فيسلكوا في سبيل ذلك مسالك الشيطان، كمسلك الترخص من غير سند متين من شريعة رب العالمين، أو تتبع رخص المذاهب والتلفيق بينها من غير نظر واجتهاد شرعيين، أو مسلك التحايل أو تطويع النصوص الشرعية وضرب بعضها ببعض…
فإن ذلك يعد خيانة عظمى للأمانة من وجهين:
ــ خيانة لأمرائهم أنفسهم إذ لم ينصحوا لهم، بل غشوهم إذ أقروهم على الباطل وزينوه لهم!!،ــ وخيانة للعلم الذي ائتمنهم الله عليه، من وجه ثان!! فيكون شأنهم كشأن من ذكر الله
من أهل الكتاب الذين كتموا العلم واشتروا به ثمنا قليلا. قال جل وعلا: “وإذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيننه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبيس ما يشترون “(آل عمران187).
قال ابن كثير رحمه الله: ” هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عيه وسلم، وأن يُنوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه. فكتموا ذلك وتعوضوا عما وُعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف؛ فبئست الصفة
صفتهم وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم،ويسلك بهم مسالكهم.
فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال: “من سُئل عن علم فكتمه؛ أُلجم يوم القيامة بلجام من نار”10.
خلاصة القول: أن طاعة أولي الأمر ليست طاعة مستقلة، بل هي طاعة تابعة
لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أمروا بما يوافق شرعهما أو بما لا يخالفه؛ كانت طاعتهم واجبة، أما إذا أمروا بما يخالف الشرع، فطاعتهم محرمة.
قال الشيخ العثيمين في قول الله تعالى: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم” (النساء59): “ولم يقل أطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن طاعة ولاة الأمر تابعة لا مستقلة،أما طاعة الله ورسوله فهي مستقلة، ولهذا أعاد فيها الفعل فقال: أطيعوا وأطيعوا… وعلى هذا
فإذا أمر ولاة الأمور بمعصية الله فإنه لا سمع لهم ولا طاعة؛ لأن ولاة الأمور فوقهم ولي الأمر الأعلى جل وعلا وهو الله، فإذا أمروا بمخالفته فلا سمع لهم ولا طاعة”11.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ تيسير الكريم الرحمن1/544.
2ــ سنن الترمذي3095،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
3 ــ الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للشيخ صالح آل فوزان،ص69.
4 ــ ص البخاري7142
5 ــ ص مسلم1836
6 ــ ص مسلم1846
7 ــ ص البخاري3603 ـ ص مسلم1843
8 ــ ص البخاري7053ـ ص مسلم1849.
9 ــ ص البخاري7144 ـ ص مسلم1839.
10 ــ تفسير القرآن العظيم،ج2 ـ ص 108/109.
11 ــ شرح رياض الصالحين2/346.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *