كلمات في اللباس ربيع السملالي

ينبغي للمسلم أن يكونَ أنيقَ الملبَس، حسنَ الهيئة، بعيدًا عما يؤذي أعين الناس الذين يُخالطهم ويعيش بينهم، غيرَ مسرفٍ ولا طاغٍ، كما ينبغي له أن يهتمَّ بباطنه كما يعتني بظاهره، ويكون أخا علمٍ وأدب، في غير شقاوة ينعم.
فالأناقة -كما يَقول الغزالي- في غير سرفٍ، والتجمُّل في غير صناعةٍ وتزويقٍ، وإحسان الشكل بعد إحسان الموضوع، مِن تعاليم الإسلام، الذي ينشُد لبنيه علو المنزلةِ، وجمال الهيئة[1].
كما لا ينبغي أن يجعلَ المرْء ثيابَه أغلى شيءٍ فيه؛ حتى لا يجد نفسه يومًا أرخصَ مما يرتدي؛ على حدِّ قول جُبران!
نظرَ رجل من الحُذاقِ إلى رجل من جُهالِ الناس عليه ثيابٌ حسنة، ويتكلم ويلحنُ بكلامه، فقال له الحاذقُ: تكلَّم على قدر ثيابك، والبَسْ على قَدرِ كلامك[2]!
إي والله، فكم شاهدنا من صاحب ثياب حسنة باهظة الثمن، لكن إذا تكلَّمَ وجدتَ فمه ينفثُ القَذَارة، وكأنه خرج من ماخور يعجُّ بالسكارى والمجرمين!
وهناك بعض الإخوة -هداهم الله- يرتدون لباسًا يوحي بالوقار، واتباع سُنَّة النبي المختار صلى الله عليه وسلم، لكن للأسف معاملتهم السيِّئة تجعل الناس ينفرون منهم، بل هناك مَن يطعن في السنَّة بسببهم، وصدق ابن رُشد حين قال: كان العلمُ في الصدور، فصار اليومَ في الثياب، وهو يقصد أن زي أهل العلم والفضْل أصبح يرتديه كلُّ مَن هبَّ ودب؛ لذلك اختلط الأمر على الناس، فأصبحوا يعتقدون أن كل من لبس جُبة وقميصًا وأرخى عِمامة بين كتفيه فهو من أهل الذكر الحكيم.
قال ابن سيرين: إذا كثُر الملاحون غرقَتِ السفينة.
فلا يكفي في الدلالة على عقل الرجلِ الاغترارُ بحسن مَلْبَسِه، وملاحة سَمْته، وتسريح لِحيته، ونظافة بزَّتِه؛ إذ كم من كَنِيفٍ أنيق ولكنه مكانٌ للقاذورات! وقد قال الأصمعي: رأيتُ بالبصرة شيخًا له منظرٌ حسَن، وعليه ثيابٌ فاخرة وحوله حاشية وهَرج، وعنده دخل وخرج، فأردتُ أن أختبرَ عقله، فسلمتُ عليه، وقلتُ له: ما كُنيةُ سيدنا؟ فقال: أبو عبد الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، قال الأصمعي: فضحكتُ منه، وعلمت قِلَّةَ عقله، وكثرة جهله، ولم يدفع ذلك عنه غزارة خرجه ودخله[3].
وغيرُ خافٍ على كل لبيب اليوم أن زيّ المرأة الشرعي ليس دليلاً على حيائها ووقارها كما كان من قبل ، حيث (كانت الفتاة المؤمنة في المرحلة التربوية للحركة الإسلامية لا تكاد ترفع بصرها إلى الشاب حتى يخفضُه حياؤُها الصادق ويردُّه إلى الأرض…، ثم إنها ترى الرجل على الرصيف فتنحرف عنه إلى الرصيف الآخر تحاشيًا لفتنة قد تقع منها أو عليها، لله درها! كيف كانت تمشي بوقار متعبدة بلباسها الساتر، متنزهة عن الألوان الصارخة والأشكال الفاضحة، لا تغنج في صوتها ولا تصنّع…، أما اليوم فقد نبت جيل مشوه من هذا المسمى بـ (الأخوات)، محجبات تبرجن بحجابهن أشد من تبرج السافرات…، وإذا خاطبن الشاب سمّرن فيه أعينهن! وتصنعن في أصواتهن أنغامًا زائدة وحروفًا باردة…، تقترب منك إحداهن لحاجة فتكاد تدهسك بصدرها! يا ويلها!)[4].
أما المُترَفون، والمنبهرون بحضارة الغرب، فإنهم قد غلَوْا كثيرًا، وأسرفوا في تعظيم اللباس واتباع (الموضة)، فأصبَحوا كالقِردة يقلِّدون عن طيب خاطر، بلا وازع ديني، ولا مروءة عربية؛ لذلك أصبحنا نستحيي من المرور ببعض الشوارع والأزقَّة التي تملؤها هذه الكائنات غير الحية، وللروائية اللبنانية (آملي نصر الله) في روايتها “الرهينة” رأيٌ أعجبني وأطربني؛ تقول فيه: وأنا أرى أن الثيابَ وسيلة لستر العورة، ومُسايَرةِ التحوُّلات الطبيعية، لكن ترف الحضارة حوَّلها إلى أغراض أخرى، وهذا ما يَزيد التأكيد على تأليه المادة على حساب الفكر والروح[5].
وقولها هذا الرائع، ذكَّرني بالدكتور مصطفى محمود حين قال في كتابه “عصر القرود” ساخرًا متهكِّمًا بالمرأة الاصطناعية، التي تُؤلِّه المادة على حساب الروح:
هذه هي المرأة (…) في التصور العصري، ومثل هذه المرأة المَصنوعة إذا وضعَتْ رأسَها تحت الحنفيَّة أو تصبَّبَ عليها العرق في يوم قائظ؛ ليَمحو الطِّلاء والزخارف، سوف تتحوَّل إلى امرأة أخرى، ولو نجحَت بإغرائها إلى حملك إلى الفِراش، ثم بدأت تخلع الباروكة والرموش والكورسيه والمساند والسوست، وربما طقم الأسنان والنهود والكاوتش والعين الصناعية، فسوف تُلقي بنفسك من النافذة، وتهرب بجلدك من الشغت والكرشة المتبقيَة[6]!
ومِن غريب أخبار بعض علماء اللغة والأدب أنهم كانوا لا يُبالون بثيابهم وملابسهم، ونظافة أجسادهم؛ أذكُر منهم على سبيل المثال صاحب كتاب “الأغاني” أبا الفرَج الأصفهاني؛ فقد ذكَر له كلُّ مَن ترجم له أنه كان زريًّا مُتسخًا، واسمع إلى ياقوت الحموي ماذا يقول عنه:
وكان الناس على هذا العهد يَحذرون لسانه ويتَّقون هجاءه، ويَصبرون -في مجالسته ومعاشرته، ومواكلته ومشاربته- على كلِّ صعب مِن أَمرِه؛ لأنه كان وسِخًا في نفسِه ثُم في ثوبه وفعله، حتى إنه لم يكُن ينزع دراعةً يقطعها إلا بعد بلائها وتقطيعها، ولا يَعرف لشيء من ثيابه غسلًا، ولا يُطلب منه في مدة بقائه عوضًا؛ فحدثني جدي، وسمعت هذا الخبر من غيره[7].
وكذلك الإمام النَّحْوي اللُّغوي المُفسر الأديب المعروف بابن الخَشَّاب، عبدالله بن أحمد الحنبلي البغدادي، ذكره الشيخ أبو غدَّة في كتابه الماتع “العلماء العُزَّاب” قائلاً: كان بخيلًا متبذلًا في ملبسِه وعيشه، قليلَ المبالاة بحفظ ناموسِ العلم، يلعب بالشِّطْرنج مع العوامِّ على قارعة الطريق، ويقف في الشوارع على حِلَق المُشعوِذين واللاعبين بالقرود والدباب، كثير المِزاح واللعب، طيب الأخلاق، وكان كلامه في حِلَق الإفادة أجودَ من قلمه، وكان ضيِّق العطن ضَجورًا، ما صنَّف تصنيفًا فكملَه! ولم يتزوَّج قط ولا تسرَّى، وكان يتعمَّم بالعِمامة فتبقى أشهُرًا على حالها؛ حتى تسوَدَّ أطرافُها من عَرَقِه مما يَلي رأسه، وتتقطعَ من الوسَخ، وتَرمي عليها الطيورُ ذَرقَها! وكان إذا رَفَعها عن رأسه ثم أراد لُبسها، تَركها على رأسه كيفما اتَّفقَت، فتجيءُ عَذَبتُها تارةً من تلقاء وجهه، وتارةً عن يمينه، وتارةً عن شماله، فلا يُغيِّرها! فإذا قيل له في ذلك يقول: ما استَوَت العمامةُ على رأسِ عاقلٍ قطُّ! وكان رحمه الله ظريفًا مزَّاحًا ذا نوادر[8].
ونِفْطَويه إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي إمام في النّحو، وكانَ فقيهًا، رأسًا في مذهب داود، مسنِدًا في الحديث ثِقَة. وكانَ على جلالة قدره تغلب عليه سذاجة في الملبس، فلا يُعنى بإصلاح نفسه. وكانَ دميمَ الخِلقة، يؤيّد مذهبَ سيبويه في النّحو فلقّبوه (نِفْطَوَيْه)، ونظم الشّعرَ ولم يكن شاعرًا ..وإنّما كان من تمام أدب الأديبِ في عصره أن يقولَ الشِّعْرَ. قال عنه ابنُ حجِر: جالسَ الملوكَ والوزراء، وأتقنَ حفظ السّيرة ووفيات العلماء، مع المروءة والفتوة والظّرَف . [[9]
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَدخلُ الجنةَ من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبرٍ)، فقال رجل: إن الرجلَ يحب أن يكونَ ثوبُه حَسَنًا ونعلُه حسنةً، فقال: (إن الله تعالى جميلٌ يحب الجمال). رواه مسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دقيقَ الملاحظة في هذه الناحية، فإذا رأى مسلمًا يُهملُ تجميل نفسه، وتنسيقَ هيئته، نهاه عن الاسترسال في هذا التبذُّل، وأمَره أن يرتديَ ألبسةً أفضل.
ومهما تكاثرَت الأشغال والمتاعب على الإنسان، فلا يَنبغي أن ينسى واجب الالتفات إلى زيِّه ونظافته واكتماله، وبعضُ مُحترفي التديُّن يَحسبون فوضى الملبس واتساخَه ضربًا من العبادة، وربما تعمَّدوا ارتداء المرقَّعات، والتزيِّيَ بالثياب المهلهلةِ؛ ليُظهروا زهدَهم في الدنيا وحبَّهم للأخرى! وهذا من الجهل الفاضح بالدين، والافتراء على تعاليمه.
حدَّثنا ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجَتِ الحروريةُ أتيتُ عليًّا رضي الله عنه، فقال: ائتِ هؤلاء القوم، فلبستُ أحسن ما يكونُ من حُلَلِ اليمن، فلقيتُهم، فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، ما هذه الحُلة؟ قلتُ: ما تَعيبون عليَّ؟! لقد رأيتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ ما يكونُ من الحُلَلِ”؛ رواه أبو داود.
وعن البراء رضي الله عنه: “كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مربوعًا، وقد رأيتُه في حُلةٍ حمراء ما رأيتُ شيئًا أحسنَ منه قط”؛ رواه مسلم[10].
فائدة: سَتْرُ الجسد حياء، ليس مجرد اصطلاح وعُرفٍ بِيئي -كما تزعمُ الأبواقُ المُسلطة على حياء الناس وعِفَّتِهم؛ لتدمير إنسانيتهم، وَفقَ الخطة اليهودية البشعة التي تتضمَّنها مُقرَّرات حكماء صِهْيَون- إنما هي فِطرةٌ خلَقها الله في الإنسان، ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر، وأقدرَهم على تنفيذها بما سخَّر لهم في الأرض من مقدَّرات وأرزاق.
والله يُذكِّر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر؛ صيانةً لإنسانيتهم من أن تتدهوَر إلى عُرْف البهائم[11].
وقد بالغ الإمام المزرباني في رسالة سماها: “تفضيل الكلاب على كثير ممَّن لَبِس الثياب” قرأتُها، فلم أخرج منها بطائل تَصبو إليه النفس!
ودامت لكم المسرات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] خُلق المسلم؛ لمحمد الغزالي (ص 157)، دار القلم.
[2] ذكره صاحب سفينة الفرج (ص 245)، طبعة دار البشائر.
[3] المُستطرف؛ للأبشيهي (ص 23)، طبعة مكتبة ابن سينا، بتعليق وتصحيح: محمد إبراهيم سليم.
[4] ذكره د. فريد في خاتمة فصل (استصنام الخيار الحزبي) من كتاب (الأخطاء الستة) وقد حذفت منه بعض الإضافات والنعوت. نقلا عن كتاب “الماجريات” لإبراهيم السكران ص:203.
[5] الرهينة (ص 62).
[6] عصر القرود (ص 5)، دار المعارف.
[7] معجم الأدباء (4/ 1709)، دار الغرب الإسلامي.
[8] العلماء العُزاب الذين آثروا العلم على الزواج (ص 134)، دار البشائر الإسلامية.
[9] الأعلام ج 1 ص 61.
[10] خُلق المسلم باختصار (ص 158، 159).
[11] في ظلال القرآن (3/ 1278، 1279)، طبعة دار الشروق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *