أسباب الفتور عن الخيرات ووسائل علاجه

للفتور عن الطاعات والقربات أسباب كثيرة ومتنوعة لها وقع خاص وتأثير لا ينكر. بالسلامة منها واجتنابها تحقيق لعلو الهمة وصدق العزيمة وإذا عرف السبب بطل العجب، «وما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء»: 

1) عدم الإخلاص أو عدم مصاحبته: قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، والإخلاص يدفع المسلم إلى الجد الاجتهاد وعدم الملل والسآمة، أما إذا ضعف الإخلاص أو دب الرياء فسرعان ما يخبو الحماس وتضعف العزيمة.
2) ضعف العلم الشرعي: فالجهل داء قاتل، والعلم نور يرفع صاحبه إلى الدرجات العلا، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وعلى قدر زيادة علم المرء تزداد معرفته بالله وبحقه وما أعده للعاملين، ولذلك كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
3) غلبة هم الدنيا على هم الآخرة: حتى يصبح القلب عبدًا لها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم».
من وجد لذته وسلواه في الدنيا وحطامها نسي الآخرة أو كاد، فيضعف الإيمان شيئًا فشيئًا حتى تصبح العبادة ثقيلة ومن ثم يدب الفتور.
4) الحياة في الأجواء الفاسدة ومن ثم الوقوع في المعاصي والمنكرات: كأن يعيش في وسط يعج بالمعاصي ويتفاخرون بالآثام. إن هذا المجتمع الصغير الذي يحيط بالمسلم يضعفه وقد لا يستطيع المقاومة فيدب الفتور إلى أوصاله، ويسري التراخي إلى عبادته وأعماله. ومن ثم الوقوع في المعاصي والمنكرات التي تكون بمثابة أثقال معنوية في الدنيا تثقل قلب صاحبها ونفسه، وهي يوم القيامة أثقال حسية قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}. ولا يتوقف أثر المعاصي على الفتور فحسب، بل تؤدي في غالب الأحيان إلى الانحراف.
5) صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الذاتية: وهذا السبب وإن خالف في مفهومه السبب السابق؛ فقد يحاول المسلم الابتعاد عن الأجواء الفاسدة ولكنه يصحب ذوي الهمم الضعيفة والعزائم الواهنة، فلا يحس بأثرهم عليه ويضعف شيئًا فشيئًا حتى يتلاشى نشاطه أو تكاد تفتر همته وتخبو عزيمته.
6) عدم وضوح الهدف: الكثير من الناس يطلبون العلم، أو يدعون إلى الله، ونلحظ منهم نشاطًا وجدية حتى قد يحتقر الإنسان نفسه عند هؤلاء. ثم نفاجأ بأنهم لم يعودوا كما كانوا، ولو دققنا النظر لوجدنا من أهم الأسباب التي أوصلتهم إلى هذه الحالة أنهم كانوا يعملون دون أهداف واضحة؛ فقد تكون فترة طفرة أو حماس بعد سماع محاضرة؛ أو قراءة كتاب؛ أو تأثير صديق، لذلك سرعان ما ينقطعون.
7) العقبات والمعوقات: قد يكون في طريق بعض السالكين مثبطات وعقبات تعيق السير إلى الله بجد وعزيمة، ولهذا ركز القرآن الكريم على هذه القضية تبصيرًا للسائرين وتثبيتًا للعاملين قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} والآيات في هذا الباب كثيرة جدًّا.
8) الفردية: الإسلام لا مكان للفردية فيه إذا تحققت الجماعة الصالحة المصلحة. ولا أقصد هنا بعض العبادات الخاصة كقيام الليل والنوافل وإنما باعتبار الغالب. كصلاة الجماعة للرجال، وأما الزكاة فإنما هي تعبير عن تضامن جماعي بين الأغنياء والفقراء، والصيام، والحج، حتى في الأمور المألوفة عند الناس.
قال علي بن أبي طالب: (كدر الجماعة خير من صفوها)، فمن شذَّ عن هذا الأصل العظيم، وآثر الفردية، أو حياة التفرد، فإنه منقطع أثناء الطريق، وستخور قواه، وتضعف عزيمته وتتكالب عليه شياطين الإنس والجن ويكون كالمنبت الذي لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».
9) الجهل بفقه الأولويات: إن عدم إدراك فقه الأولويات يجعل المرء في حيرة من أمره، فتتزاحم أمامه مجموعة من المصالح والأهداف يصعب عليه القيام بها جميعًا فيقدم هذه ويؤخر تلك دون ضابط أو قيد، ومن ثم تنشأ عن هذه مجموعة من المشكلات تصيبه بالفتور مما يلهيه بالمفضول والمرجوح، ليبدأ بالتخلص من الفاضل وتنقلب عنده الأسس والموازين، كمن يتحرز من رشاشة النجاسة، ولا يتحاشى من غيبة وبهتان، أو يكثر من الصدقة ولا يبالي بمعاملات الربا، أو يتهجد بالليل ويؤخر الفريضة عن الوقت.
10) عدم مراعاة فقه الممكن: وهو عدم التناسب بين الإمكانات الذاتية وبين مقدار العطاء من عبادة، وعلم، ودعوة فينشأ بسبب ذلك عدم القدرة على الاستمرار فيقع الفتور والضعف والخور.
11) أمراض القلوب: كالحسد، وسوء الظن، والغل، مما يشغل المرء بالخلق عن الخالق لذلك امتن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن شرح له صدره، ووصف أهل الجنة فقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} وأثنى على المؤمنين الذين يقولون في دعائهم: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا}.
فهذه مجموعة من أسباب الفتور، وبقي أن نشير إلى أهم وسيلة من سبل العلاج وهي:
تعاهد الإيمان وتجديده:
فإن قضية الإيمان ليست أمرًا على هامش الوجود، يجوز لنا أن نغفل أو نستخف بها، كيف وهي أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره؟
إنها سعادة الأبد أو شقوته، إنها لجنة أبدًا أو لنار أبدًا فكان لزامًا على كل ذي عقل أن يفكر فيها.
هذا الإيمان: الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينتقل من جاهلية عبد فيها صنمًا من حلوى ثم أكله، إلى قوة إيمان جعلته يقطع شجرة الرضوان التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحتها خشية أن يطول الزمن بالناس فيقدسونها.
هو الإيمان الذي جعل الخنساء التي فقدت أخاها لأبيها (صخرًا) فملأت الآفاق عليه بكاءً وعويلًا، وشعرًا حزينًا، ثم هي بعد الإيمان امرأة أخرى، تقدم فلذات أكبادها إلى الميدان أي إلى الموت راضية مطمئنة بل محرضة دافعة.. فقالت مقولتها الشهيرة: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
إن الإيمان على قوته ومتانته أشبه ما يكون بالشجرة التي تغرس في الأرض فإذا أراد لها صاحبها حياة قوية وثمرًا وعطاء فلا بد أن يتعاهدها منذ غرسها، وأن يهيئ لها الوسط الملائم والتربة الخصبة، وأن يبعد عنها الشوائب الضارة، وأن يديم خدمتها حتى تضرب جذورها في أعماق الأرض وتمد فروعها في السماء… ثم تقدم ثمرًا طيبًا وعطاء نافعًا… إنها لا تعطيه إلا بعد ما يعطيها، ولا تمنحه إلا بعد ما يمنحها، ولا تقدم له زادًا إلا بعد ما يقدم لها زادها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *