إن مما شاع في زماننا وأصبح يدور بين عموم الناس، خاصة الشباب الناشئة، مبدأ «تحكيم العقل» ورفض التسليم لأوامر الشرع، والمجادلة فيها بحجة عدم الاقتناع بها، أو عدم قبول العقل لها، فأصبحت كثير من الأحاديث والأحكام تُرَدّ، وتوصف بالنقص وتثار الشبهات حولها، حتى تزعزعت مسلمات الشرع وثوابته، وأصبح عقل الفرد هو الفصل والحكم فيما يرد عليه من أمور الدين والدنيا.
وعند التأمل في العقل وتركيبه يتبن أن العلوم الضرورية أو البديهيات العقلية كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء وغيرها، مما تتفق عليه عقول العقلاء، أما العلوم النظرية وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال -والأحكام الشرعية منها- فاختلاف العقول المجردة فيها بيِّن، فكل يفسر بحسب منظوره ومفهومه، مما يدل على أن العقول تتفاوت والأفهام تختلف، فرد أي أمر لمجرد العقل فقط يعني نتائج متباينة في الحكم على الأشياء، قال ابن تيمية رحمه الله: «وهذا مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير وجليل ودقيق وغير ذلك» مجموع الفتاوى (9/309).
كما أن العقل تعتريه مؤثرات، من ضعف وعجز، وميل للهوى، وتصور الأمور بحسب مدارك الشخص وعلمه؛ بل إن هذا التفاوت قد يحصل في الشخص الواحد، قال الشاطبي -رحمه الله-: «فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم، ولا بذات دون صفة، ولا فعل دون حكم» الاعتصام (3/286). فجعل العقل مناطا ترد إليه الأحكام بمجرده خطأ بين، كما أن كثيرا من التجارب والبحوث العلمية لا يحَكّم فيها العقل وحده، بل تخضع لدراسة وجمع أدلة وتطبيق على الواقع، لدراسة جدوی وأثر ما يتم دراسته، ثم تصدر بعد ذلك الأحكام، وهي مع كل هذا قابله للرد والقبول، فكيف بمن يتصدى لأحكام الشرع بالعقل المجرد، ويجعله معيار الرد والقبول من غير دليل واضح؟!
وإن سلمنا جدلا صحة جعل العقل مقياسا لقبول الأحكام وردها، فلأي العقول نحتكم؟ فالعقول كثيرة، فإن قيد ذلك بعقل فرد أو جماعة معينة، فما الذي ميز هذا العقل عن غيره من العقول؟
وإن كان الاحتكام لجميع العقول، فلِمَ يؤخذ قول النافي بعقله ويقدم على المثبت بعقله؟!
ولا سبيل لجعل الأمر راجعا لكل فرد وما يراه بعقله، إذ الأحكام أنزلها الله لعباده كلهم واحدة، فتبين بهذا أن العقول تتفاوت وأن التحاكم للعقل مردود بالعقل.
ويجدر التنبيه إلى أن رفض جعل العقل مقياسا لقبول الأحكام وردها ليس معناه غلق التفكير وإهمال العقل، فعلاقة العقل بالنقل علاقة متوافقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح» مجموع الفتاوى (12/80). فإن اختلفا فإما أن العقل غير صريح، وإما أن النقل غير صحيح.
وعند التأمل في مكانة العقل في الإسلام نجد أن الشارع كرم الإنسان بالعقل وميزه به على سائر المخلوقات، ودعا إلى تشغيل طاقاته واستثارته؛ ليؤدي دوره الذي خلقه الله له، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيراً}، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وغيرها من الآيات الداعية إلى التدبر والتفكر، بل إن الشارع دعا إلى الإيمان عن طريق الإقناع العقلي، كما أثنى على من استعمل عقله وذم من عطله، فقال تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُون}، وغيرها من الآيات.
ومن سمات التكريم الذي حظي به العقل في الإسلام أن جعله أحد الضروريات الخمس، فحمى العقل وحرم كل ما يؤدي إلى الإخلال به وضياعه، كما جعله مناط التكليف، فالتكليف يدور مع العقل وجودا وعدما، كما حدد المجالات التي للعقل أن يخوض فيها، حتى لا يضل ولا يزيغ، ولا يتخبط في الظلمات إذا خاض في غيرها، فالعقل لا يدرك كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو أخبر عنه، فمداركه ليست شاملة، إذ لو كانت العقول مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لما احتاج الناس لإرسال الرسل، وبيان الشرائع، قال الشاطبي: «اعلم أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب» الاعتصام (3/282).
وقال ابن تيمية: «فإنهم -أي سائر المسلمين- متفقون على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدركه كل الناس بعقولهم، ولو أدركوه بعقولهم لاستغنوا عن الرسول» درء تعارض العقل والنقل (5/297).
ومن هنا نجد أن الإسلام اتخذ موقفا وسطا تجاه العقل، فلم يقدسه ويجعله أصلا للعلوم والمعارف والحَكم المقدم على النقل، كما لم يعطله ويقبل ما لا يعقل من الخرافات، بل اتخذ مسلكا وسطا تجاه العقل حيث عرف للعقل قدره فوضعه في مكانه اللائق به بلا إفراط ولا تفريط؛ والناظر إلى جذور شبهة تقديم العقل على النقل يجد أنها كانت أول معصية وقعت في الأرض، حيث ركن إبليس إلى عقله فرأى أفضلية النار على الطين، فأعرض عن أمر ربه وقدم عقله على النص فهلك، فآفة تقديم العقل على النقل من أخطر الآفات التي جلبت للأمة الكثير من الخلاف وظهور الفرق الضالة، كما زعزعت المسلمات الشرعية لدى المسلمين، وفتحت باب الهوى وعدم التسليم لأوامر الله، وأوردت الشبهات تلو الأخرى على دين المرء، فسهل عليه الانحلال من دينه، وترك شريعة ربه بحجة عقله، لاسيما في زماننا الذي كثرت فيه الفتن، وقل فيه التحصين الديني المتين.
فالسبيل الأمثل لنجاة المسلم أن يتعلم دينه ويتمسك به، وإن طرأت عليه شبهة أن يبحث لها عن جواب في الشريعة الإسلامية وسؤال أهل العلم عنها، ولا يسارع في رد النصوص ولَيّ الأحكام وفق هواه، وإن ثبت له صحة النص الشرعي مع عدم قبول عقله فلْيَتهم عقله، وليَصْدق في طلب الحق، ويسأل ربه أن يجليه له ويبصره به، مع ترسيخ الإيمان في قلبه، والاعتزاز بالإسلام ولزوم السُّنة، فالشبهات تَعْلق بالقلوب الضعيفة والنفوس المنهزمة.
وأختم بوصية شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم رحمهما الله: «لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات» مفتاح دار السعادة (1/140).