“علامات الفكر المتهافت” العلامة الأولى: بناء الأحكام على علل غير عللها الحقيقية الفقيه مولود السريري

 

 

لكلِّ حقيقة لوازمها وعلاماتها الدالة عليها، والتي تُعرف بها، والفكر المتهافت علاماته كثيرة.

أحدها: بناء الأحكام على العلل غير المناسبة عقلاً وواقعًا، وقد يكون ذلك عن ضعف في قوّة الإدراك، أو عن جهل بصورة الموضوع، أو عن هوى يصدُّ عن الجهة الموصلة إلى العلم الصَّحيحِ.

وهذا الأمر (البناء على العلل غير المناسبة) قائمٌ بالفكر العلماني على وجه راسخ في شأن تعليلهم لتصرُّفاتِ المتدينين من المسلمين، وما هم عليه من أحوال.

فتارة يعللون ذلك بأنه موجَب الفقر والحاجة والتهميش، وهذا كان قولهم في تعليل تصرفات الشباب الذين يفجرون أنفسهم، وعندما أثبت الواقع أنَّ من هؤلاء الشباب من هم أرباب الثراء والمال والجاه قالوا على هذا التصرف: إنَّ شيوخهم يعِدونهم بالزَّواج من الحور العين في الجنَّة.

وعلى قطعٍ، يعلم كل ذي بصيرة أنَّ هذا القول ضرب من الهذيان الذي يلفظ به المبرسمون.

إذ واقع الإنسان النفسي الطبيعي يشهد أنَّ هذا التعليل يجافيه ويباينه تمامًا، إذ لا يتأتى في مجريات العادة أن يكون الشبَق موجبا لهذا العمل وإن بلغت قوته ما بلغت.

وهب أنَّ هذا كان صحيحًا، فهل يُعوز ذا الشهوة البهيمية هذه أن يجد مطلبه في هذا الزمان على أقصى ما يريد؟

الجواب عن هذا معلوم، وهو النفي.

ثم إنَّ العلة العادية الأصلُ فيها الاطراد، فلو كانت هذه الشهوة توصل إلى أن يفجر نفسه لنيلها، لكان العلمانيون أولى بذلك لما قام بهم من الغلمة التي أفضت بهم إلى الانحلال المطلق، والواقع يشهد على ذلك، فهل ينكـَر ما قام الحس والتجربة بإثباته.

أما تراهم لا ينفكون يعادون على هذا الأمر ويوالون عليه!! “والحب والبغض في الانحلال والفساد من العلمانية”.

وعلى هذا السنن العجيب في التعليل مضوا في تعليل هذه الصحوة الدينية التي تزعجهم، فتارة يعللونها بأنها موجب تدفق أموال الخليج، ويكاد المرء يصاب بالغثيان من هذا الهذيان، إذ ما علاقة تدفق المال بالمادة الروحية القائمة بالقلوب المؤمنة، والسلوك الحسن القائم بجوارحهم، والمتطلبات المعرفية التي لا تقتنع العقول إلا بوجودها، وذلك -الاقتناع- لا يكون إلا بصحتها، فهل إعطاء المال للمرء يترتب عليه كل هذه الأشياء المعنوية المعرفية الروحية العلمية، ثم هل كانت هذه الأشياء قائمة بنفوس أهل هذا البلد على مدى التاريخ الإسلامي أم كان هذا شيئا حادثا؟!

سبحان الله العظيم، هذا بلد الإسلام؛ لا يحتاج أهله إلى مال أحد لكي يظهروا حقيقتهم.

ثم إنَّه لو كان المال يعطي هذا لكان مكتسبا من المال الذي يؤخذ من محاربي الدين الإسلامي، وبيته صناديق دعاة التغريب، الذين يستمتعون به، ويوهمون المانحين بأنهم قد أفلحوا في تغريب المسلمين، وإن حُدثوا بهذه الصحوة المباركة استروحوا إلى أنَّ هذه سحابة صيف عن قريب تقشع.

وهكذا حال كل التعليلات العلمانية لأعمال المتدينين وأحوالهم بلا استثناء، سواء كانوا أحياء أو أمواتا.

وسبب هذا الخطأ والتخبط لدى هؤلاء العلمانيين في هذا الشأن كونهم يعلمون ظاهرا من الحياة فقط، وقياسهم الخلق على أنفسهم، وذلك مبني على جهلهم بحقيقة الإنسان، وبأنه مركب من مادة وروح، وأن سلطانهما جار عليه بالتوازن والاعتدال إن كان سويا، وأمّا إن كان على خلاف ذلك فإنّه يتخبّطُ في عماية وجهالة.

فالمتنطّعُ المتشدّدُ في الدّين مطويّ على وقدة الجانب الوجدانيّ الموجّهِ بالجهلِ، والمتفلّتِ من الضَّبْطِ الفقهيّ الإسلاميّ، فمال به ذلك إلى الخروج عن حدّ الاعتدال وإلى الوقوع في أمور مهلكة له ولغيره.

وقد يكون ذلك منه عن شعوره بالإهانة والاحتقار من دعاة الانحلال والفساد بوجه ما، مصحوبًا بما تقدَّم ذكره من الجهل المُرَكَّبِ بشرائع الإسلام وشعائره الذي ارتداه وتأزّرَ به، تلك الشّرائع الّتي من أصولها وجوب حفظ نظام العالم على سنن مستقيم يتحقّق به العدل والفطرة وحفظ الضّروريات الخمس؛ وهو ما لا يتوصّل إليه إلَّا بالجدال بالّتي هي أحسن، والدّخول في السّلم الشّامل العامّ وبيان متجلّيات عظمة الإسلام والنّعم المتجلية المكنونة فيه، والظّاهرة.

والّتي منها -كذلك- البدء بتطهير المرء نفسه وتزكيتها من الرُّعُونَاتِ ورذائل الصّفات، وجعل ذلك غاية غاياته فيما هو ساع إليه ومجدّ فيه، قبل إصلاح غيره.

وهو خلاف ما عليه هذا الصّنف من النّاس، إذ قصارى أمرهم التّجريح للنّاس والبحث عن العيوب لنشرها طارحين مقتضيات الأدلّة الشّرعيّة الحاكمة بضدّ ما هم عليه.

وإذا سألتهم عن موجب هذا الذي هم عليه أجابوا بعلل لا وجود لها ولا قرار إلاّ في مخيّلاتهم المستمدّةِ من تصوّرات فاسدةٍ، والممدّة من مادّة أمزجة نفسيّة مضطربة لخلوّها من زمام فقهيّ صادٍّ عن الوقوع في الزّلل والخطإ.

ومن تأمّل هذا بإنصاف آخذًا بمقتضيات الواقع حال هؤلاء أدرك هذا الأمر على جلاء.

وأمّا العلمانيّ فإنّه لمّا كان غير عابئ بالجانب الرّوحي أو غير مدرك لحقيقة أمره كان فكره على وَفْقِ ذلك، فكان لا يتخطّى إدراكه الجانب المادّي في البشر، فكلّ شيء يصدر عن البشر -في نظره- مصدره هذا الجانب، فكان ذلك مبلغه من العلم.

والحقيقة الّتي قد تزول الرّاسيات وهي لا تزول، هي أنّ الإنسان مزدوج التّركيب من المادّة والرّوح، وأنّ معجزته الوجدان، كما يشهد بذلك الواقع والعيان.

ودراسة هذا مبدأ النّظر الصّحيح لمن له رغبة في معرفة حقيقة الإنسان.

فيجب أن تفهم حقيقة الإنسان وتتصوّر على ما هي عليه أوّلا قبل الحديث عن تعليل تصرّفاته والكلام عن أحواله.

ـ المنهج الصّحيح في النّظر في حقيقة حال المؤمن والعلمانيّ المتمرّد من حيث التّعليل لحالهما:

منطلق النّظر يجب أن يكون من أمر المغايرة النّفسيّة بين الطّرفين، بحيث يكون مبدؤ النّظر والبحث في موجبات هذه المغايرة وعللها.

ويجب أن يكون كلّ واحد من الطّرفين ملزما بالجواب عن علّة أو علل هذه المغايرة، فمن كان منهما يملك الجواب المعتضد بالواقع والبراهين العقلية المنتزعة منه، فهو الذي إلى قوله المصير، ويكون قول مخالفه ساقط الاعتبار.

والعلمانيون قد سمعوا وهم يدّعون أنّ علّة الاختلاف هو أنّهم أرباب فكر، ونظر وأنّ غيرهم من هؤلاء المتدينين تعطّلت عقولهم، فلم يشتغل فيها إلاّ المنطقة الخيالية التي نتاجها الخرافة.

وبعضهم يرى أنّ المتديّن مريض مرضًا نفسيّا، وأنّه محتاج إلى “العلاج النّفسي”.

ولهم آراء أخرى في هذا الشأن من جنس هذا الذي ذُكِرَ، لا تخرج عنه.

ولا يخفى أنَّ هذا الضّرب من التّعليل غير مقبول لفقده صفة المطابقة والصّلاحية في الإسناد، إذ من شرط العلّة العادية الصّلاحية العادية، فالنّظر الصّحيح والفكر المستقيم لا يصحُّ أن يجعلا علّة في أمرٍ بدون الجريان على مقتضاهما، والمضيّ على سبيلهما الذي يحصل ويقعُ بالتّرتيب للمعلومات والحجج البالغة للتّوصل إلى المطلوب.

وهذا أمر لم يحصل من هؤلاء ولا صدر منهم، وإن كان موجودا حقًّا فأين صورته، ومن أين أخذت مادته.

ثم إنّ ادّعاء كون العلمانيين أرباب فكر ونظر صحيح مصادرة على المطلوب ومغالطة تصدم الحقيقة، والبرهان العقلي والواقع شاهد على ذلك.

وأمَّا كون المسلم المتديّن مريضًا مرضًا نفسيًّا فلوازم المرض النّفسيّ تُنْكِرُ هذا، وتشهد على خلافه.

فالمصاب بالمرض يفقد الانضباط، والسّلوك المستقيم ويتخلّف عن الإدراك المعرفيّ لما هو مصلحة له ممّا هو مفسدة له، ثمّ إنّه يميل إلى الانتحار غالبا لفقده الاطمئنان ولغلبة الكئابة وشدّة الخوف عليه.

هذه بعض لوازم المرض النّفسيّ، فمن الذي هو الأحقّ والأولى بالاتّصاف بهذه الأوصاف اللاّزمة لهذا المرض، المسلم المتديّن، أم العلماني الملحد؟

من الذي لا يجد الرّاحة النّفسيّة إلَّا إذا أغرق نفسه في أوهام السّكر وخيالات المخدّرات، وأتون الموبقات؟

اسألوا الواقع، وانظروا في واقع وحال كل واحد من الطّرفين بإمعان، تدركوا الجواب القاطع.

المحتاج إلى هذه المهدئات حقًّا لتنتظم أمور حياته بوجه ما هو غير المسلم المتديّن، احصوا من يردون الخمارات والحانات، ثم انظروا من هم، وبعد ذلك اسألوا هل هم مرضى، يتوقّف زوال ألمهم -وإن كان ذلك عارضًا- على شرب هذه السّموم المهلكة للعقول والصّحة، أم لا؟

المتديّن بعيد عن هذا، لأنّه مستغن عنه بمادة أخرى وهي المادة الرّوحية الفطريّة المصلحة للنّفوس والأبدان، نافر منه، فانظروا إليه، وأمعنوا النّظر في حاله، ولا تكونوا كالذين صدّهم إلف الإعراض عن النّظر في الدّلائل الواقعيّة، وصرفهم الاعتياد على عدم التّأمل عن نزع الأحكام من أدلّتها الشّاهدة عليها.

فالمعلولات لا تكون إلَّا عن عللها، والعلل يجب أن تكون فيها القوّة والقدرة على إظهار ما ينسب إليها من معلولات، وهذا يعلم ثبوته وعدمه من واقع حال المعلولات، وحال عللها.

وما ثبت في العيان وحكمت به مقتضيات العقول، يجب المصير إليه على كلّ حال، ولا يكابره إلَّا من يعاند الحقائق، وينكر الضروريّات العقليّة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *