تأملات في العقيدة والمنهاج بقلم: العلامة الدكتور الحسن وجاج طلائع الغزو الفكري مرابطة في مؤلفات الخلف الحلقة الأخيرة

النموذج التاسع: بدعة اعتبار النقد العلمي طعنا في العلماء أو غيبة يجب على المسلم اجتنابها:

إذا تأملتم النماذج السابقة كلها أدركتم أنها جميعا أخطاء ارتكبت ثم صيغت قواعد ومناهج علمية لا يتطرق الشك إلى صحتها وسلامتها، وهذا النموذج يمتاز عما قبله باعتباره دعوة عامة إلى السكوت عن أخطاء العلماء، وتركا واضحا لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
لقد كان السلف ينتقدون ويبينون أخطاء العلماء نصحا للمسلمين ولذلك وضع علم الجرح والتعديل في نقد الرجال، وفي مقدمة صحيح مسلم ما يظهر منه الغض الشديد من مخالفيه في مسألة اشتراط العلم باللقاء بين الرواة، ومن المخالفين له شيخه البخاري، وقد عرف عن مسلم تبجيله للبخاري، وفي تهذيب التهذيب قول يوسف ابن أسباط جوابا عن الذي قال له: “أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟”؛ لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم”، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية: “وأما الشخص المعين فيذكر بما فيه من الشر في مواضع منها: المظلوم، ومنها أنه يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم وفي الجرح والتعديل”، إلى أن قال: “ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه ومأجورا على خطئه”اهـ.
وفي موضوع بيان الأسباب التي تبيح الغيبة وتقلبها نصيحة واجبة يقول المسناوي رحمه الله:
ألا إن اغتياب الناس ظلم عظيم الجرم من أردى المناكر
تجنب غيبة إلا حروفا ببيت جاء عن بعض الأكابر
تظلم واستغث واستفت حذر وعرف بدعة فسق المجاهر
ومع هذا البيان التبس أمر الغيبة المحرمة بأمر النصيحة الواجبة على علماء الخلف ففضلوا السكوت على الجهر بالحق، فبدل أن يكونوا من دعاة الحق الذين ينفون عن الدين تحريف المبطلين، كانوا من الذين يلتمسون لأغلاط آبائهم وشيوخهم أعذارا ومبررات ما كلفهم الله بها.

النموذج العاشر: جهل الخلف بالانقلاب الخطير الذي وقع في طرق تلقي العلم الإسلامي:
وهذا الجهل هو الذي جعل المتأخرين من الخلف يستسيغون مناهج وطرق شيوخهم الأقربين ولو كانت مخالفة لمنهاج السلف الصالح من المسلمين، وغرضي من سوق هذا النموذج هو تعريف القراء بالأوصاف التي منعت الخلف من الالتحاق بركب السلف وإن كانوا لا ينكرون فضل السلف، وقد سبق في مقدمة هذه الحلقات أن المراد بخلف أهل السنة هم من تأثروا بأفكار ومناهج الفرق الضالة من علماء القرن الخامس الهجري إلى اليوم، وهنا أرى من تمام الفائدة أن أشير إلى بعض ما وصف به علماء الخلف من طرف علماء السلف، وأكتفي هنا بصورتين:
قال الشيخ المعلمي وهو يصف الشيخ زاهد الكوثري: “الأستاذ من أهل الرأي، ويظهر أنه من غلاة المقلدين في فروع الفقه ومن مقلدي المتكلمين ومن المجارين لكتاب العصر إلى حد ما، وكل واحدة من هذه الأربع تقتضي قلة مبالاة بالمرويات ودربة على التحمل في ردها وجرأة على مخالفتها واتهام رواتها”اهـ
وقال شارح الطحاوية وهو يشرح توحيد المرسَل: “فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولا، أو نحمله شبهة أو شكا، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم؛ فلا نتحاكم إلى غيره ولا نرضى بحكم غيره ولا يوقف أحد تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإذا أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه تأويلا وحملا فقال نؤوله ونحمله” اهـ فالصورة الأولى تشرح موقف علماء الخلف من السنة والثانية تشرح موقف أتباعهم من السنة، وموقف الطائفتين من السنة عدم الانقياد التام لأوامرها تأثرا بمذاهبهم وشيوخهم، وهذا نفسه هو العائق لهم من الالتحاق بركب السلف.
وختاما أعلن لهؤلاء الطلبة أنه لا خيار لأحد من المسلمين في ترك طريقة السلف في فهم الإسلام بعد أن أوعد الله المخالفين لسبيلهم بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء/115]
وقد قرأتم من الأمثلة والنماذج والصراعات حول فهم الإسلام ما يكفي اللبيب منكم في التعرف على منهج السلف في التمسك بالدين والدفاع عنه، وقد تبين لكم من الأمثلة والنماذج المذكورة كيف تخلت جماهير الخلف عن طريق فهم الدين فهما صحيحا وعن مهمة الدفاع عنه في آن واحد، ومن أجل ذلك رحبوا بكل ما يرد عليهم من أعداء الإسلام، رحبوا به وصاغوه قواعد مسلمة يستعان بها في فهم الدين، وهذه القواعد الدخيلة هي التي وصفتها بأنها طلائع غزو فكري رابطت في عقولنا ومؤلفاتنا إلى اليوم.
والآن بعد مضي ألف سنة على غفلة؛ ظهرت كتب السلف وانتشر الوعي في شباب المسلمين واشتاقت نفوسهم إلى معرفة ما هو أصيل وما هو دخيل من تعاليم الإسلام في كتب أجدادهم، وعلى ذوي القدرة من الشباب أن يركزوا جهودهم على تنقية مؤلفات أجدادهم وينبهوا من يعاشرونهم من الرفقاء والأصدقاء والآباء والإخوان على أهمية هذه التنقية، وبذلك يصبحون جنود الإسلام التي شاركت في إجلاء طلائع الغزو الفكري في كتب المسلمين وعقول المسلمين، ويسجلوا أنفسهم في لائحة الذين وصفهم نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بقوله: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.
وختاما أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *