لقد أنهى الدستور معركة إقراره بعد مخاض عسير وشد وجذب بين مختلف القوى العاملة في الحقل السياسي التي تريد أن تفرض رأيها ورؤيتها على الشعب، وقد ربحها بعد أن قال الشعب كلمته وانتهت الحكاية لتبدأ أخرى؛ وفصل جديد يقاتل فيه على تنزيل الدستور وتفعيله.
وهذه أم المعارك الحاسمة التي من ظفر بها فعل ما أراد بإرادة الشعب المغلوب على أمره، غلبة نريدها أن تنتهي بالوقوف في وجه طغمة أفسدت وتريد من الفساد أن يستمر، وتقطع الطريق على المصلحين، لذلك هذه القوى تستعد على قدم وساق وتهيئ الوسائل والآليات لتربح هذه المعركة الحاسمة. لأن بنود الدستور وفصوله متفق عليها ولا تشكل خطورة بقدر ما تشكله القوانين التشريعية التي منطلقها الدستور القابل للعجن والطبخ على أي نار، ولي العنق حسب الرغبة.
فلا عجب أن نجد كل السياسيين يساريين ويمينيين ولبراليين واشتراكيين وإسلاميين ومحافظين يرحبون ويثمنون وينوهون ويعبرون عن ارتياحهم من بنود الدستور الجديد التي يزعم كل منهم أنها تلبي مطالبه ومقترحاته، رغم التناقض الحاصل بين عقائد القوم السياسية، وكأننا أمام دستور منافق أو متملق أو متناقض له أكثر من وجه.
أين يكمن سر هذا الترحاب من كل هؤلاء المتنافرين سياسيا؟
إنه في النية المبيتة لدى كل طرف في الانقضاض على الدستور في مرحلة التشريع بعد الانتخابات البرلمانية التي يتمنى كل حزب أن يكون الأول فيها ويطمع في ذلك حتى يطوع فصوله وفق قناعاته السياسية المرتبطة بجميع مجالات الحياة.
لقد رسخ الدستور الهوية الإسلامية وثبتها، ويسعى أعداء الإسلام في طمس معالمها ومسخ حقائقها عبر خططهم التي يدبرونها بليل، ولا شك أن هناك عملا دؤوبا من أجل السطو على الدستور وتفصيل القوانين المرتبطة به على المقاس العلماني عن طريق الانتخابات القادمة.
إن المطلوب من كل غيور على الدين أن يحول بين كيد هؤلاء المتربصين وبين ما يشتهون، وأن نسعى جميعا بناء على قاعدة (جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها) في تقديم من يحمل هم الدين وهموم المسلمين ويجعل الدين أولى أولوياته، أو لا يكون له عداء وحقد، وهذا محتم ولو من باب أهون الشرين وأخف الضررين.
فإنه لا يعقل أن نكون طرفا مساعدا للمفسدين ليشرعوا ما يحاربون به الدين بالحياد السلبي مما يمكن لكل ناقم وحاقد فيضيع الدين وما سلم منه، وتنتهك الأخلاق وما بقي منها، وتتحول الحياة بذلك إلى جحيم لا يطاق، وظلام دامس لا يبقى فيه أثر للحقيقة.
إن الذين أغلقوا دور القرآن أغلقوها ضدا على القانون، فكيف لو ترك لهم المجال لوضع ما أرادوا من القوانين التي تضيق على الأخيار وتمكن للأشرار، وتحارب القرآن وأهله بقوة القانون الجائر حيث تركنا لهم الفراغ. أفي شرع الله ما يدعوا إلى تمكين المفسدين وتركهم وما أرادوا، أم دعينا إلى الأخذ على أيديهم حتى ننجو جميعا كما في حديث السفينة.
إنهم يحشرون كل ما يمكن أن يكون عونا لهم على بلوغ أهدافهم في خانة ما يهيؤونه لاستقبال الانتخابات، ويستعينون بالوجهاء وأصحاب المال وذوي الشهرة وكل ما تصل إليه اليد، حتى لا تضيع الفرصة من بين أيديهم كما ضاعت منهم يوم وضع المسودة لما نصوا صراحة على علمانية الدولة فخابوا وخسروا.
هاهم اليوم يشحذون أسلحتهم ويتلهفون تلهف العطشان، أفيعقل أن نجلس على كرسي الفرجة ننظر إلى من يكيد لنا ولديننا، ونتركهم يقررون للشعب المسلم الذي ميعوه أيما تميع كما يشاءون، ويشرعون من القوانين الإباحية والمنحرفة والمقصية للدين بالكلية.
إننا في حاجة إلى نصرة وتقديم يد العون إلى كل من يسعى في خدمة الإسلام وأهله والداعين إليه، أولا يمارس عليهم وصاية ولا حجرا ولا تضييقا، وهذا لازم حتى يستطيع كل منا أن يعمل لهذا الدين ولمصلحة الوطن، وذلك بتحييد كل من يكن للإسلام عداء أظهره أو أبطنه.
قد يكون هذا رأي في السياسة غير سديد لكن ينظر إليه بعين التقويم والمناقشة حتى يلهمنا الله رشدنا ونصل للموقف الصواب خدمة لدين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.