بين حانا ومانا ذ: عبد الحق معزوز

“بين حانا ومانا” مثل أورده أبو الفتح بهاء الدين الأبشيهي في كتابه “المستطرف في كل فن مستظرف” 1/34 برواية: “بين حانة ومانة ضاعت لحانا”.
وقد اكتفى الناس بالقسم الأول، وأصل المثل أن رجلا بلغ الخمسين وكان له زوجتان؛ الأولى اسمها “حانا” بلغت الأربعين والثانية اسمها “مانا” دون العشرين، فكان إذا بات ليلة عند “حانا” تمدح له مزايا الشيخوخة، وتنزع له شعرات لحيته السوداء مدعية أن في الشعرات البيضاء جمال الكبر، ومهابة الشيخوخة، وإذا بات عند “مانا” تمدح له الشباب، وتنزع شعرات لحيته البيضاء مدعية أن الشعرات السوداء مظاهر الشباب، والفتوة.
ودامت الحال على هذا المنوال مدة ظلت فيها أصابع الزوجتين تلعب في لحية الرجل نتفا، حتى وقف ذات يوم أمام المرآة، فأخذ ما تبقى من لحيته، ثم رفعها، وقال: “بين حانا ومانا ضاعت لحانا”.
وذهب قوله مثلا يضرب لمن وقع بين بليتين. وقد حضرني هذا المثل بعد تأمل فيما جرى من أحداث توقيف ثلة من خطباء الجمعة وكان آخرهم أخونا الشيخ الفاضل يحيى المدغري خطيب سلا.
الكل يعلم أن منبر الجمعة شوكة في حلوق العلمانيين واللادينيين لما يحققه من تبصير للرأي العام وتفسير للقضايا، ونقد للظواهر المتنافية مع شريعاتنا السمحة، وتحليل للمشكلات برؤية شرعية تأصيلية تحليلا يربط النص بالواقع، والنتائج بالأسباب، والدنيا بالآخرة… فيعم خطاب المنبر سائر البشر باللغة التي يفهمونها والحال المناسب لعصرهم وزمانهم بما لا تجفى منه عقولهم، ولا يبعد النجعة عن همومهم ومشاكلهم، خطاب يتجدد بتجدد الحياة وتطورها، يأبى العزلة والانكفاء على الذات، ويحرص على المتابعة والرصد، والتكيف مع كل معطيات العصر، ويكشف الحقائق لذوي العقول والأفهام، فينبه كل غافل، ويوقظ كل نعسان، ويرشد كل حيران، ويدل كل تائه، ويثبت كل ساع.
ولذا يسعى رموز العلمنة والإلحاد دائما سعيا حثيثا لإطلاق التهم وكيل الشتائم وتزييف الحقائق لكل ما يتصل بالإسلام، ومن جملة ذلك ما يتصل بالمنبر ومعتليه. وهكذا أمر ينبغي أن يتنبه له فرسان المنابر وحملة مشعل الدعوة إلى الله، فيحذروا التقليل والاستهانة من صخب الحركة الفكرية المضادة للإسلام والتي استطاعت استمالة الكثير من أبناء الإسلام ممن كان يعبد الله على حرف.
فهي تعمل جاهدة متربصة مترصدة كل فلتة لسان، فتجعل من الحبة قبة، وتستعدي الجارات والخالات من وسائل الإعلام المأجورة، والأقلام المأمورة، والأفواه المخمورة، لتجعل من الفلتة قضية كبرى تقوم لها الدنيا ولا تقعد؛ إذ تتهدد أمن البلاد واستقراره، وتشق وحدته وألفته، والفلتة صارت سبا لسكان المغرب الأقدمين، ونقضا لتاريخهم المجيد، وطعنا في أعراضهم وأنسابهم… وما تلكم الضجة المفتعلة إلا رغبة من بني علمان في إطفاء قبس من نور الدعوة كان يضيء في ربع من ربوع هذا الوطن المسلم الآمن، وتكميم لصوت لطالما تعالى مدويا يدحض كل باطل تلبس بغير لباسه وتزيى بغير جلبابه.
والذي يندى له الجبين، حين توافق “مانا” على ما إليه سعت “حانا”، فتلكم أخذت بالأسباب وقدمت الطلب ورفعت الشكوى إلى المؤسسة المسؤولة والوزارة الموسومة، وهذه لبت واستجابت على وجه السرعة دون تردد ولا ترو، حتى لا يغضب بنو علمان ومن نعق بنعيقهم من بني “جهلان”.
إنها والله لرزية وبلية أن يستجيب وزير الأوقاف لطلب شرذمة قليلة، فيخمد سراجا لطالما أضاء الله به قلوبا غلفا وأعينا عميا، ضاربا عرض الحائط بكل قواعد الشريعة، فلا تثبت كان، ولا عذر بسبق لسان، ولا مراعاة لكون الخطيب إنسان، ومن طبيعته الخطأ والنسيان، ولا مراعاة لقصد المتكلم فيما يحتمل من الكلام وجهان، ولا رد لكلام الخطيب إلى ما فصل فيه القول وأبان، ولا معاملة بحسن الظن كما أمر النبي العدنان، ولا قبول لاعتذار الخطيب وقد أمر الشرع بالصفح والغفران. فإلى الله المشتكى وعليه التكلان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *