الأوطان لا تستبدل بالأموال هل يستبدل السبتيون والمليليون المغرب بأسبانيا..؟ قاسم العلوش

اندهشت كثيرا وربما اندهش معي كثيرون ممن تتبعوا الأزمة الأخيرة التي وقعت بين المملكة المغربية وإسبانيا على إثر الزيارة التي قام بها العاهل الإسباني إلى التراب المغربي المغتصب في سبتة ومليلية من تلك التصريحات التي كان يدلي بها بعض المشاركين في إحدى القنوات الإعلامية ممن لا يعرف معنى الوطنية وحب الوطن، التي تقول بأنه لو تم عمل استفتاء للسبتيين والمليليين لاختار المغاربة هناك البقاء مع إسبانيا عوض العودة للسيادة المغربية، لكونهم لن يغامروا بأن يستبدلوا الرفاهية والتقدم والحرية التي يعيشونها تحت الاحتلال بشظف العيش والتخلف والكبت الذي سيكون في انتظارهم تحت السيادة المغربية زعموا.
لا شك أن هذا كلام متهافت، والأكثر تهافتا منه الكلام الذي يقول أن سبتة و مليلية كانتا منذ الأزل “إسبانيتين”، فإذا قلبنا صفحات التاريخ القديم والحديث لوجدنا بين سطورها الحقيقة الصادمة التي ترد على هؤلاء وأولئك.

الأحرار يصبرون على الفقر والجوع ويأبون العيش تحت وطأة الذل والاحتلال
إن الشعوب التي عاشت تحت الاحتلال والاغتصاب الأجنبي لأراضيها وشعوبها إبان الحقبة الاستعمارية، وما رافق ذلك من استغلال للخيرات والثروات، تتذكر جيدا حركات التحرر الوطني التي قامت فيها، لأجل استرجاع السيادة الوطنية والكرامة لشعوبها. إنها حركات ولا شك تعرضت لكثير من الإغراءات بكل أنواعها، وخاصة زعماؤها، لأجل التراجع عن مشروع الكفاح من أجل التحرير الوطني، واللحاق بمن انغمسوا في خدمة المشاريع الاستعمارية للقوى الأجنبية.
لقد كان بإمكان قوى التحرر الوطني، على اختلاف نحلها ومللها، أن تقبل تلك المغريات وتتخلى عن المطالبة باستقلال أوطانها، غير أنها اختارت العزة على الذلة، واختارت السيادة وشظف العيش، عوض الرفاهية والمهانة التي كانت ستظل تعيشها شعوبها المستغلة من بعدها من المحتل.
لقد ضربت شعوب كثيرة في العصر الحديث المثال الرائد في تفضيل الاستقلال والحرية على التبعية والعبودية، سواء الشعوب العربية والإسلامية أو الشعوب الإفريقية أو الشعوب الآسيوية. ولا يزال الشعب الفلسطيني يعطي أروع الأمثلة على ذلك، رغم ارتماء ما يسمى بـ “السلطة الفلسطينية” في أحضان المشروع الصهيو-أمريكي.
لو فكرنا بمنطق القائلين إذن بتلك المقولة، مقولة البقاء في “رفاهية” المحتل الغاصب عوض البحث عن السيادة والعزة، لما ناضل شعب من أجل دينه وأرضه وسيادته، ولبقي المستعمر يصول ويجول في بلدانها ناهبا خيراتها، مستعبدا إنسانها.
لقد أبانت الأزمة الأخيرة بين المغرب وإسبانيا على أن الحس الوطني لدى المغاربة للمطالبة بحقهم في السيادة على أرض هي جزء من أرضهم وعلى ماء هو جزء من مائهم وعلى سماء هي جزء من سمائهم، لايزال متقدا مهما طال الزمن، وأنهم ينتظرون فقط حزم المسئولين عن صناعة القرار بالمغرب، ومدى جديتهم في معالجة معضلة استمرار احتلال أرض، ربما لو نطقت طيورها وأسماكها وأحجارها لسخرت هي بدورها من ادعاءات الإسبان أن سبتة ومليلية “أرضا إسبانية” منذ الأزل ولقالت: كذب الأفاكون المدعون أننا لا ننتمي منذ الأزل لهذا الوطن الذي اسمه المغرب.

وقفة تاريخية
في التاريخ الذي ليس بالبعيد يحكي لنا الناصري في كتابه “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” كيف عمل البرتغال على اقتطاع سبتة وإخراجها من تحت السيادة المغربية سنة 818 هجرية، قال الناصري رحمه الله: “..ذكر صاحب نشر المثاني في كيفية استيلاء البرتغال على سبتة.. أن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة يوهمون أن بها سلعا، وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين، وذلك صبيحة يوم الجمعة من بعض شهور سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالا عددهم أربعة آلاف من الشباب المقاتلة فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد”، اهـ بتصرف يسير.
فالبرتغال أو ” البرتقيز” كما كان يحلو للمغاربة تسميتهم عبر التاريخ، هم أول من اقتطع أرض سبتة من السيادة المغربية وألحقوها ببلدهم وليس الإسبان، وقد استولى الإسبان على سبتة بعد انتزعاها من البرتغال بمقتضى اتفاقيات وشروط تمت بين البلدين سنة 1080هـ/1669م كما يخبرنا بذلك الناصري في تاريخه. غير أن المغاربة لم يتركوا ذلك دون ردة فعل يسعون من ورائها استرجاع المدينة المغتصبة بالقوة، وقد كانت أولى محاولتهم سنة 842 هـ/1438م، أي 22 سنة بعد احتلالها من طرف البرتغال، وقد كادوا ينالوا بغيتهم لولى لطف الله تعالى ثم هلاك كبير قادة جيوش البرتغال، بعدما تم أسره على يد عسكر السلطان في سجن فاس، حيث تم عقد اتفاقية إطلاق سراحه هو ومن كان معه من الجند الأسرى مقابل جلاء البرتغال عن مدينة سبتة.

هل مطالبة المغرب باسترجاع سبتة ومليلية مطالبة صادقة؟
يرى بعض المتتبعين لقضايا الشأن المغربي أن ساسة لا يستطيعون تحريك ملف سبتة ومليلية بالقدرة والنجاعة المطلوبتين، نظرا لثقل ملف الصحراء وأوليته على الأجندة المغربية، لكن ذلك لا يعني أن حق سيادة المغرب على المدينتين يمكن أن يطاله التقادم، كما صرح بذلك الملك محمد السادس في خطابه الأخير يوم 6/11/2007، وفي المقابل لا ينبغي السكوت وترك الملف بالمرة لا تحركه إلا المناسبات الاستفزازية التي يقوم بها الجار الشمالي، لأن ذلك كما يقول بعضهم يعطي انطباعا لدى الرأي العام الوطني قبل الدولي أن مطالبة المغرب بحقه في السيادة على سبتة ومليلية ليست ذات مصداقية، من زاوية أنها مطالبة “مناسباتية وقتية” وربما هي فقط مطالبة يمليها الإحراج الذي تسببه السياسات الإسبانية اتجاه المدينتين، أكثر من أن تكون قناعة نابعة من مدى منطقية وعدالة الموقف المغربي.
ولا يمكن التسليم بأي حال من الأحوال بسلامة الفكرة القائلة أن المصالح الاقتصادية التي بين المغرب وأسبانيا سببا في سكوت المغرب عن ملف سبتة ومليلية، وحتى لو كانت هذه الفكرة قائمة لدى بعض المسئولين المغاربة فإنه لا يمكن البتة أن نستبدل شبرا من وطننا مقابل المال. فالمغرب ليس وحده المستفيد من العلاقات الاقتصادية القائمة بين البلدين.. بل يمكننا القول أن أسبانيا تستفيد أكثر من المغرب من خلال هذه العلاقة وهذا لا يخفى على نبيه. كما أن العلاقات الاقتصادية، التي لا تقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق المشروعة والعادلة لكل بلد، لا يمكن الارتياح لها أبدا، لكونها شبيهة بالعلاقة التي يستخدم فيها منطق العصا والجزرة، وإذا كان الجار الشمالي يريد أن يعامل المغرب بهذا المنطق فلا ينبغي القبول به البتة من الجانب المغربي.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *