“الدِّينُ المُعَامَلَة” محمد أبو الفتح

من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، قولُهم في الحث على حسن الخلق: “الدين المعاملة”، وقد تولى كِبْرَ نَشْرِ هذا الحديث المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم -للأسف الشديد- الخطباءُ على المنابر، والوعاظُ في المساجد.

قال الشيخ الألباني متأسفا على تساهل الخطباء في الاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، قال رحمه الله: “…يُضاف إلى ذلك: أننا لا نزال مع الأسف نجد الكثيرين، ولا سيما خطباء المساجد، يسوقون أحاديثَ ضعيفة، ويستدلون بها، ويبنون عليها أحكاما شرعية، غير آبهين ولا عابئين بمسؤولية هذا الأمر عليهم أمام ربهم، وأمام من يُنصت إليهم، بل ربما يظنون أنهم يحسنون صنعا! وإني لأعجب أشدَّ العجب من الخطباء بصورة خاصة، كيف يُعِدُّ أحدُهم خطبة صلاة الجمعة، ولا يستحضر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا؛ فليتبوأ مقعده من النار”.
فنقول لهؤلاء: هذا قول صحيح صريح في التحذير من التحديث عنه صلى الله عليه وسلم إلا بعد التثبت.. وبهذه المناسبة، وعلى سبيل العبرة، أَذْكُرُ (والكلام للشيخ) ما سمعته نهار أمس (30 رجب 1416) من خطيب المسجد، وهو يحث الناس على التعاون وقضاء حاجة المسلم، ويقرأ لهم من ورقتين أحاديثَ كتبها أو كُتبت له، وأكثرُها ضعيف لا يصح، وكان يعلق على بعضها من ذاكرته، ويرفع بذلك صوته، فذكر جملة متداولة اليوم، وهي: “الدين المعاملة”، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبها إليه أكثر من مرة، بل إنه زاد في الطين بلة، فزعم أنها من مفاخر الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حصر الإسلام في كلمتين فقط: “الدين المعاملة”، ولا أصل لذلك، ولا في الأحاديث الموضوعة! والله المستعان”. (سلسلة الأحاديث الضعيفة 5/10-11).
والأدهى والأمر من هذا أنَّ بعض الناس لا يقف عند الاستدلال بهذا الحديث المكذوب على أهمية الأخلاق في الإسلام -وهي مهمة بلا شك- بل يزيد على ذلك فيستدل بمفهومه على الاستهانة بشعائر الإسلام، وخاصة منها الصلاة، فيقول بعضهم: “وَاشْ بْقَاتْ فْالصَّلاَة، الدِّينْ رَاهْ هُوَ المُعَامَلَة”، أو “وَاشْ بْقَاتْ فْالحِجَابْ..”، “وَاشْ بْقَاتْ فْاللَّحْيَة..”، وعلى هذا فَقِسْ.
وبعضُ الناس -ممن رَقَّ دينُه، وَقَلَّ حَيَاؤُه، وَهَزُلَت في العلم بضاعته- يقول مُظهرا الإعجاب بأخلاق الكفار ومعاملاتهم: “إِيوَا هَادُو هُمَا المُسْلِمِين بْصَّحْ”، ويستدل على دعواه بهذا الحديث المكذوب.
ومما يدل على فساد معنى هذا الحديث –إذا حملناه على ما يقصدُه المستدلون به- حديثُ جبريل، حين جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفي آخره قال صلى الله عليه وسلم: “إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم” (رواه مسلم)، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الدينَ متمثلا في أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وجعل أعلى مراتب الدين درجة الإحسان؛ لتضمنها المرتبتين السابقتين.
وهذا لا يعني أننا نستهين بأمر الأخلاق؛ بل قد جاءت في فضلها ومكانتها أحاديث كثيرة، تغني عن هذا الحديث المكذوب. وأذكر منها:
• عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا (رواه البخاري ومسلم).
• وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء. (رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب2641).
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق (رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب 2642).
هذا؛ ويمكن أن تكون مقولةُ: “الدين المعاملة” صحيحةَ المعنى؛ إذا حملنا (المعاملة) على عمومها، ولم نجعلها قاصرة على معاملة العباد، فالله الذي خلقنا أولى أن نحسن معاملته من الخلق، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: “الله أحق أن يستحيى منه من الناس” (صحيح الجامع 203).
ومعلوم أنَّ الحياء هو أبو الأخلاق كلِّها، وذلك لأنه خُلُقٌ يَحْمِلُ صاحبه على كل خلق كريم، ويمنعه من كل خلق ذميم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقاً، وَإِنَّ خُلُقَ الإِسْلاَمِ الحَيَاءُ” (صحيح الجامع2149).
فإذا كان الله تعالى أحق وأولى أن نحسن معاملته من الخلق؛ فليُجبني القارئ اللبيب:
– أليس من سوء المعاملة مع الله تعالى أن يَخْلُقَنا ويرزقنا، ثم نعبدَ غيره من الأولياء والصالحين؟! فنتضرع لهم بالدعوات، ونقرب لهم القرابين، ونتزلف لهم بالذبائح والنذور.
– أليس من صفاقة الوجه أن نأكل من رزق الله، ونتنعم بنعمه، ثم نقطع صِلَتَنَا به بترك الصلاة، مع شدة حاجتنا إليه، وعجزنا عن الاستغناء عنه طرفة عين؟؟!!
– أليس من قلة الأدب مع الله، أن نخالف أمره، ونعصيه في ملكه، بين أرضه وسمائه، وعلى مَرْأى ومسمعٍ منه؟!!
أم إنه من العقل والرزانة أن نتصرف في مُلك الغير بما لا يرضاه المالك؟؟!!
أجيبوني رحمكم الله!
أم إن الله تعالى لا نصيب له من حسن المعاملة؟؟!! ولا حق له في أن يَسْتَحْيِيَ منه العباد؟!
في انتظار الجواب منكم، أقول والقلب مني يكاد يتفطر حزنا على حال المسلمين مع ربهم، أقول والدمع مني يَذْرِفُ:
ما أجرأَ العبادَ على ربهم! وما أحلمَ اللهَ بالعباد!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *