الاستغراب في فكر الدكتور عبد الله العروي -4- د. عبد الله الشارف كلية أصول الدين/كلية الآداب تطوان

الاستغراب الايديولوجي
1 ـ مقدمة حول مفهوم الايدولوجيا
أجمع النقاد الباحثون في مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية بأن قضية تحديد المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالعلوم الإنسانية، من أصعب القضايا المعرفية الموجودة. والسبب في ذلك يرجع إلى أن العامل الذاتي يسيطر على مواضيع هذه العلوم أكثر مـن العامل الموضوعي، حيث إن الإنسان هو الدارس والمدروس في آن واحد، بالإضافة إلى أن العلوم الإنسانية رغم المجهودات المبذولة في سبيل تقدمها وتطوير مناهجها لم تلحق بالعلوم المادية الطبيعية، وغدا من الصعب مثلا أن يتفق علماء الاجتماع على تعريف موحد لمصطلح من المصطلحات الاجتماعية.
وقد يكون مفهوم الايديولوجيا أبرز مثال للاختلاف في التعريف، فالاشتراكيون يعرفون الايدولوجيا انطلاقا من منظومتهم الفكرية. والمفكرون الغربيون في أوربا وأمريكا لهم تعريفاتهم الخاصة، بل إنهم يختلفون باختلاف المدارس التي ينتمون إليها.
فأصحاب المدرسة الوظيفية يختلفون مع البنيويين. وهؤلاء يختلفون مع أصحاب الوضعية المنطقية وهكذا. كما أنهم كثيرا يدخلون تعديلات على بعض المصطلحات، أو يعيدون صياغتها حسب الزمان والمكان.
إن ما أصاب الإيديولوجية الاشتراكية في العقود الأخيرة من ارتكاس واندحار أثر حتما في فهم الاشتراكيين لمعنى الإيديولوجيا، وبالتالي تغير مضمونها.
ويرى “كارل مانهايم” بأن “الإيديولوجيا هي الوعي الزائف بالذات”، في حين يذهب (ماينو) إلى أن “الايديولوجيا تظل كلمة مطبوعة إلى حد بعيد بذلك المعنى الذي أسبغه عليها الماركسيون الذين يرون أن جوهـر الإيديولوجيا هو إرادة التعبير عن المصالح الحيوية لجماعة أو لطبقة اجتماعية”.
ويلاحظ) ريمون آرون (الالتباس العميق المستخدم في كلمة إيديولوجية، فهي تـارة تكون ذات معنى حيادي بل إطرائي وطـورا بمعنى متبذل، ويرى: «أن هناك تذبذبا في استخدام تعبير إيديولوجيا يتراوح بين المعنى الحجاجي: الايديولوجيا هي الأفكار المزورة، هي تبرير المصالح والأهواء، وبين المعنى المحايد: الصياغة الجدية لموقف معين اتجاه الواقع الاجتماعي أو السياسي»1.
ويرى “أندري لالند” في قاموسه الفلسفي أن (دستوت دوتراسي)  هو واضع مصطلح الأيديولوجيا، وذلك إبان فترة الثورة الفرنسية (1789م)، ثم تناقلته أقلام الدارسيين الفرنسيين خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
وفي كتابه “مذكرة حول ملكة التفكير” ذهب (دوتراسي) إلى أن الإيديولوجيا تمثل: “العلم الذي يدرس الأفكار بالمعنى الواسع لكلمة أفكار وخصائصها وعلاقتها بالوعي الاجتماعي”2.
بما أن ظهور هذا المصطلح تزامن مع الثورة الفرنسية فقد كان يكتسي طابعا ثوريا. ولا يخفى على أحد مدى قوة الأفكار التي نادت بها البرجوازية الصاعدة مثل العدالة والأخوة والحرية، وتأثيرها في الشعب الفرنسي الذي صنع الثورة.
لقد كانت مدرسة دستوت دوتراسي تسعى في البداية لأن تكون علما للمعاني والأفكار المجردة، يدرس نشأتها وتاريخ تطورها بدء من الإحساسات الأولية التي اهتم بها عصــر العقل (القرن17م) خاصة “جون لوك” و”كوندياك”.
ولم تكن تلك الصياغات وقفا على القضايا المعرفية فقط، بل جاوزتها إلى الأمور السياسية أيضا. فوقفت لذلك وراء قادة الثورة الفرنسية، واستعمل أولئك القادة أفكار (مدرسة الايدولوجيا) كسلاح لا يستغنى عنه في الصراع ضد العقائد السياسية والدينية المتسلطة، التي اعتمد عليها النظام السابق في الحكم.

2ـ تحليل عبد الله العروي للايدولوجيا
لعل الأستاذ عبد الله العروي أول كاتب مغربي استخدم بغزارة لفظ الإيديولوجية في إنتاجه الفكري، وهذا ما يتضح عند الاطلاع على مؤلفاته مثل: “الإيديولوجية العربية المعاصرة” أو “العرب والفكر التاريخي” أو “مفهوم الدولة” أو”مفهوم الحرية” أو “مفهوم الإيديولوجية“. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأستاذ كان من المغاربة الأوائل الذين تبنوا الفكر اليساري وعملوا على نشره، ومناصرة الإيديولوجية الماركسية الاشتراكية.
إذ بما أن الكتابات الماركسية في الشرق والغرب، كانت أكثر الكتابات استعمالا لمفهوم الإيديولوجية خصوصا في العقود الثلاثة الأولى للنصف الثاني من القرن العشرين، بات من الضروري أن يكون لهذا الاستعمال صدى لدى الكتاب المغاربة الماركسيين. أضف إلى هذا أن الأستاذ العروي يتميز بتكوين فلسفي لا بأس به، خاصة فيما يتعلق بالفلسفة الأوربية في عصر النهضة والقرون المتأخرة.
ومفهوم الإيديولوجية كما سيتبين من إبداع الفلسفة الأوربية زمن الثورة الفرنسية. وقد تعرض الأستاذ العروي لتحليل مفهوم الإيديولوجية في كتابه “مفهوم الإيديولوجية“.
يقول في مقدمة هذا الكتاب: “إن مفهوم الايدولوجيا ليس مفهوما عاديا يعبر عن واقع ملموس فيوصف وصفا شافيا، وليس مفهوما متولدا عن بديهيات فيحد حدا مجردا، وإنما هو مفهوم اجتماعي وتاريخي، وبالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة، إنه يمثل “تراكم معان”، مثله في هذا مثل مفاهيم محورية أخرى كالدولة أو الحرية أو المادة أو الإنسان”، ثم يقرر “أن كل نقاش حول مفهوم الإيديولوجيا يستلزم الاطلاع على أصله وصيرورته، وبالتالي على المذاهب الفلسفية المتعلقة به”3.
يقترح الأستاذ العروي تعريب كلمة إيديولوجيا لتصبح على وزن أفعوله أي: “أدلوجة“، ويعرض لمعنى الأدلوجة كقناع وكنظرة كونية، وكعلم للظاهرات.
أولا: الأدلوجة كقناع: يندرج تحت هذا المعنى استخدام القرن الثامن عشر الذي يرى الأدلوجة عبارة عن الأفكار المسبقة الموروثة من عصور الجهل والاستعباد والاستغفال.
واستخلص مانهايم في كتابه: “الإيديولوجيا والطوباوية” أن الإيديولوجيا هي الابتعاد عن الواقع والعجز عن إدراكه، من هنا كانت الحركة الاشتراكية تنعت الليبرالية بأنها أيديولوجية، بينما تنعتها هذه بأنها طوباوية. ويرجع عجز الأيديولوجيا إلى أنها متعلقة بوضع تجاوزه التطور، في حين يرجع عجز الطوباوية إلى أنها متعلقة بمستقبل مستبعد التحقيق.
إن كل منظومة فكرية تكتسي صبغة أيديولوجية أو طوباوية حسب الظرف التاريخي الذي تظهر فيه والفئة الاجتماعية التي تستعملها. فقد كانت الليبرالية في القرن الثامن عشر طوباوية، ثم انقلبت إلى أيديولوجيا في القرن اللاحق.
ويندرج مفهوم الأيديولوجيـة والطوباوية تحت مفهوم واحد هو الوعي الزائف. إن المثقف الحر من كل انتماء هو وحده القادر على الانتقال من منظور إلى منظور وهو الذي يصل إلى الوعي الصادق والموضوعية، لأنه يقارن بين الأيديولوجيات، وينقـد الواحدة من منظور الأخرى، في حين لا يمكن لمعتنق أيديولوجية معينة أن يفعل ذلك.
ثانيا: الأدلوجة  كنظرة كونية: الأدلوجة تعبر عن مصالح فئوية إذا نظرنا إليها في إطار مجتمع آني، ولكنها نظرة إلى العالم والكون إذا نظرنا إليها في إطار التسلسل التاريخي.
فالفلسفة الألمانية ممثلة بالرومانسيين وهيغل، تعتبر أن كل حقبة تاريخية تتميز بروح خاصة بها هي تجسيد “للروح المطلقة”، هذه الروح تحل في النتاج الفكري وآثار تلك الحقبة، ولا سبيل إلى فهم فكر وثقافة أية حقبة تاريخية بدون فهم روحها الخاصة. إن كل ثقافة تمثل “الروح المطلقة” في فترة معينة، فهي بالنسبة للفترة اللاحقة ناقصة ولكنها بالنسبة للتاريخ العام تامة كاملة.
ثالثا: الأدلوجة/علم الظواهر: تحت هذه المعنى يتطرق الأستاذ العروي إلى نظرية ماركس حول الأدلوجة أو كما يسميها (أدلوجياء ماركس).
ينتقل ماركس إلى دراسة الأسباب الواقعية التي تمنع الذهن البشري من أن يعكس بنية الأشياء الحقيقية، فيتجه إلى نظرية الاستلاب الناجم عن توزيع العمل الاجتماعي. فنظرا إلى انفصال الشغل بالفكر عن الشغل باليد، يتصور المفكـر أن ما يجري في ذهنه منفصل تماما عما يقوم به غيره من عمل جسماني. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يعزل التوزيع العامل عن وسائل عمله، فتصبح وسائل العمل قوة يتخيل الفرد أنها قوة خارجية عنه ومتحكمة فيه.
إذن هناك ارتباط بين الظاهرات التالية: الملكية الفردية، فصل العامل عن وسائل عمله، توزيع العمل، الوعي المزيف، والعلاقات بين المفاهيم السابقة علاقات تولدية: الملكية الفردية تكمن وراء سلب العامل من وسائل العمل، والتوزيع وراء الاستلاب، والاستلاب وراء الوعي المزيف”4.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
Raymond Aron (trois essais sur l’age industriel -1
.Paris,  Plon 1966, p 215
2ـ André Lalande “Vocabulaire technique et critique de la philosophie”.  Ed. PUF Paris 1976 p.458.
3- د. عبد الله العروي: مفهوم الأيديولوجيا، ص:5.
4 ـ منير الخطيب، مفهوم الايديولوجيا في الفكر العربي المعاصر، (بتصرف) مجلة الوحدة ع 75 ص:116ـ117ـ 118.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *