العنوان: أصولُ أسباب الرُّقيِّ الحقيقي.
المؤلف: العلامة أحمد بن محمد الصَّبيحي السَّلاوي (ت 1363هـ/1944م) -من علماء سلا-.
تقريظ: الحافظ أبي شعيب الدّكالي، والعلامة عبد الحفيظ الفاسي، والمؤرخ العربي النّاصري، والأديب الطيّب عوّاد.
تقديم: معالي الدكتور عبّاس الجراري.
ضبطُ النص والتعليق عليه وتخريج أحاديثه: أيوب بولسعاد.
الأجزاء: جزء في (117) صفحة، محتوياته كالتالي:
مقدمة معالي الدكتور عبّاس الجراري: جاء فيها مانصُّه:
“عرف المغرب في النصف الأول من القرن الماضي تحوّلاً كبيراً بسبب الرَّجَّة التي أحدثها دخول الحماية عام اثني عشر وتسعمائة وألف 1912م، ممَّا جعله يستيقظ من سُباته الذي عانى ويلاته طوال قرون منذ تسرَّب إليه الضّعف، وغدا الخطر الخارجي يُداهمه ويُهدِّده. وقد رافق هذا التَّحوّل اندلاع المقاومة المسلّحة، مواكبة للتَّوجُّه السَّـلَفي الذي نشأ عنه العمل السياسي المتمثل في الحركة الوطنية. وفي هذا السياق ظهرت محاولات للإصلاح، بدءاً بمراجعة أحوال الواقع في مختلف مجالاته؛ فكان أن أخذ العلماءُ والأدباء من كتاب وشعراء يتناولون بعض قضايا هذا الواقع، في سعيٍ إلى مراجعته وتصحيحه، بقصد التّحرّر من الاستعمار، وفي تطلع إلى التطوير والتجديد بما يتلاءم ومتطلبات العصر، أملاً في اللِّحاق بركب المجتمعات المتقدمة. ومن بين السبّاقين إلى هذا التّناول بَرز اسم أحمد بن محمّد الصَّبيحي السّلوي الذي حرّر في وقت مبكر -وبالضبط في آخر العقد الثاني من القرن المذكور- هذا الكتابَ الذي يُسعدني التقديم له”. ثم أثنى الدكتورُ على المؤلِّف رحمه الله وعلى المؤلَّف بما يُحفِّزُ على قراءته، ويُغري بمطالعته.
مقدمة المحقق: وقد بين فيها أهميةَ الكتاب، والذي عالج قضية شائكة اختلفت فيها أنظار كثير من الناس، وبذل فيها المخلصون لهذا الدين الخالد أنفسَ أعمارهم، تأليفا، ودعوة، وتعليماً، وتأصيلا، وتربية، رغم تشغيب الأدعياء المفتونين بالرِّئاسة الوهمية، سُجناء العُقد النفسية، والذين يُؤثرون الخلاف على التعاون والائتلاف، ويبغونها عِوجاً وعَوجاً. ثم بين المحققُ صحة نسبة الكتاب لمؤلفه، وعمله في الكتاب، وذَكَر ترجمة موجزة للمؤلف رحمه الله.
النص المحقق: افتتحه المؤلف رحمه الله ببيان المراد من تحرير الرسالة، وهو نصيحة إخوانه أهل المغرب الأقصى بالأخذ بالأسباب الصحيحة للوصول إلى بحبوحة المجد الشّامخ والشّرف الأقصى، مُبوِّباً لها باباً باباً، جاءت كالتالي:
الدِّين: ولم يقصد الشيخُ التكلمَ على حقَّانيَته على غيره، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده، بل قصد التكلم عليه من حيث ملائمتُه التّامّة لقواعد الرّقي الحقيقي، وأصول المدنيّة الصحيحة، فقال رحمه الله: “ليهنأ أهل المغرب الأقصى أنهم على دين اعترف عظماء الفلاسفة من غير أهله فضلاً عن أهله، بأنه الدين الوحيد الملائم لأصول المدنية الصحيحة، والجامع لقواعد الإنسانية والخصال المليحة، والقابل بصلاحية أصوله للانطباق على مشارب أهل كل جيل، ممتازاً بذلك كتابه (القرآن) على غيره من الكتب (كالتوراة) و(الإنجيل)”. ثم نقل رحمه الله أقوال بعض المفكرين والفلاسفة من غير المسلمين، التي تُقرّ وتعترف بما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، أكتفي هنا بذكر بعضها:
1)- قال الدكتور (شبلي الشميل) على شدّة ريبه من الأديان: “إن في القرآن أصولاً اجتماعية عامّة، وفيها من المرونة ما يجعلها صالحة للأخذ بها في كل زمان ومكان… وإن القرآن فتح أمام البشر أبوابَ العمل للدنيا والآخرة، ولترقية الروح والجسد بعد أن أوصد غيرُه من الأديان تلك الأبواب، فقصّر وظيفة البشرية على الزهد والتّخلي عن هذا العالم الفاني”.
2)- قال (إسحاق طَيْلَرْ) الإنجليزي -وهو قِسٌّ شهير، ورئيسٌ في كنيسة-: “إن الإسلام يمتدُّ إلى إفريقيا، ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنّجدة من آثاره، والشجاعة والإقدام من أنصاره”.
3)- قال (فولتير) الشهير -الكاتب الفرنسي- في مقالته (القرآن): “لقد نَسَبْنا إلى القرآن كثيراً من السّخافات، وهو في الحقيقة خِلْوٌ منها، ولكن كَهَنَتُنا كتبوا كتباً كثيرة في ذمّ الأتراك، واتفق أن كان الأتراك مسلمين، فأُصيب الإسلامُ على حساب غيره”.
العلم: ذكر الشيخ رحمه الله في ديباجَة هذا الباب أن فضائل العلم أشهر من نار على عَلَم، والوارد فيه من الكتاب والسنة وأقوال الحكماء لا يُحيط به القلم، ويكفي منه قوله تعالى:”قُل هل يَستوي الذين يَعلَمون والذين لا يَعلمون”.
وبعد أن ذكر أجناس العلم: من الشرعي، والآلي، والإلٰهي، والطبيعي، والرياضي، والاستعماري، وذكر تحت كل جنس أقسامه، بيـَّن رحمه الله غرضَه من ذلك، وهو إلفاتُ أنظار المغاربة إلى تقصيرهم في كثير من العلوم: كالتفسير والحديث، وإهمالهم لكثير منها: كالطب وبقية العلوم الطبيعية والرياضية، ثم ناشد رحمه الله المغاربةَ التَّعلم، فقال: “فلنُقبل معشرَ المغاربة على تعلم سائر العلوم، وليكن لنا في كلِّ واحد منها مقامٌ معلوم، ولنُتْبع علومَنا الشرعية بتلك العلوم الأخرى المرعية، ولنكفّر سيئةَ تقصيرنا السابق في حقها بذلك”.
ثم بيـَّن رحمه الله أن التعليم عندنا من أهم أسباب تأخّر العلم فيه أمور -وقد ضرب الأمثلة تحت كل أمر-: (1) عدم تنظيمه كما ينبغي. (2) عدم مُراعاة بعض المدرِّسين لحال طلبتهم. (3) اهتبال غالب مُدرّسينا بالحفظ والإلقاء، دون الفهم والتَّفهيم، مع أن المقصود من التعليم إنما هو حصول صورة الشيء في عقل المتعلم. ثم ختم البابَ بقوله: “فينبغي لنا معشر المغاربة أن نُسهِّل للعلم أسبابَه، ونفتح للتعليم الصحيح أبوابه. ولنا الأمل الوطيد في وزارة المعارف الجليلة أن تعير تنظيم التعليم جانباً، وتتم قاعدة نيل كل مُدرس ما يستحقه، بطريق الأهلية والوصف، رُتبةً وراتباً، فذلك مما ينشط أعظم تنشيط في هذا المقام”.
الفلاحة: وهو علم يُعرف به كيفية تدبير النبات، وتنميته إلى أن يكمل، وجعل الشيخ رحمه الله الفلاحة سبباً من أسباب الرقي الحقيقي للمغاربة لقصد التنويه بها، والتنبيه على عظم أهميتها، حيث أن المغرب أرض فلاحية، يقول الشيخ: “فعلينا معشر المغاربة، وخصوصاً ذوي اليَسار والثروة منّا، بإحياء الفلاحة علماً وعملاً، ومدّ يد المساعدة لكل بصير بها قصير اليد فيها. فبها ثروة البلاد، وغبطتها ورفاهيتها، إذ ترخُص المعيشة أولا، ويَفضُل ثانيا عن حاجة البلاد ما هو الكثير الأثير، الذي يُنقل إلى الخارج ببَدْل جليل، هو أصل الثروة وغبطة البلاد والعباد”. ثم قدّم الشيخ نصائح جليلة ونافعة لوزارة الفلاحة…
التجارة: وهي: تقليبُ الحاصلات الطبيعية والصناعية للربح، يقول الشيخ: “وهي مهنة جليلة، إذا كانت بصدق وإخلاص، ينفع بها الإنسان نفسه أوّلا، ووطنه ثانيا”.
وبيـّن الشيخ رحمه الله أن التجارة -لاسيما في العصر الحاضر- تقتضي خبرةً زائدة، وتمييزَ الأزمنة والأمكنة الموافقتين من غيرهما، وضبطاً كبيراً للرّغبات والأذواق، حتى إذا أقدم الإنسانُ على التجارة في شيء أقدم على بيِّنة وبصيرة من أمره.
ثم نصح الشيخُ ذوي اليَسار من التجار بزيارة المعارض العمومية، والأسواق الجامعة البهيَّة؛ باحثين منقِّبين، والمتاحف التجارية المفتحة الأبواب بكل ناحية؛ مرشدين ومسترشدين، مع عرض الصنائع الوطنية المرغوب فيها بالداخلية أو بالخارجية، بعقد الشركات مع صُنّاعها الفقراء الماهرين، وبذلك ينفع التجارُ أنفسَهم، ويرحموا جنسَهم، ويضعوا عن عواتقهم المسؤولية الكبرى في إعلاء شأن وطنهم أمام الله وأمام الناس.
الصناعة: وهي: ملكةٌ في أمر عملي فكري، يقول الشيخ رحمه الله: “فالصناعة ولاشك مهنة جليلة، ينفع بها الإنسانُ نفسَه ووطنَه، ويحبه الله بها”. وقال أيضاً: “وإذا كان للفكر في صناعةٍ دخلٌ عظيمٌ، فكان المصنوعُ في غاية اللّطف والتّناسب والإتقان، كانت مزيَّةً وشرفاً لصاحبها، لدلالة ذلك على كمال عقله ومزيد خبرته، ولذلك كان أعاظم من الرجال أرباب صناعات”.
وبعد أن ذكر الشيخُ رحمه الله بعضَ الصنائع الموجودة في المغرب مع ذكر المدن المشتهرة بها، كصناعة البناء وفروعه من نقش الحجر وتخريمه بسلا خصوصا، وتسطير الجِبْص وتزويقه بفاس ومكناس، وصناعة الزرابي بالرباط والدار البيضاء، وصناعة الحلي بسوس والصويرة وفاس، وغيرها من الصنائع التي ذكرها الشيخ، قال رحمه الله: “ونرى أن من الواجب أيضاً على إخواننا أرباب الصنائع المذكورة وغيرها: (1) أن يبذلوا جهدَهم في تلطيف صنائعهم، مع المحافظة التامّة على الذوق المغربي فيها، وعدم مزجه بشيء من غيره أصلا. (2) أن يخفضوا الثمنَ إلى الدّرجة الممكنة، ويقنعوا بالربح اليسير، والقليلُ في الكثير كثيرٌ. فبمجموع الأمرين تروج مصنوعاتهم، ويحصل الإقبال الكثير عليها”.
الاقتصاد: وهو: افتعال من القصد في الأمور، أي: التَّوسط فيها، وعدم سلوك طرفي التفريط والإفراط. يقول الشيخ رحمه الله: “حذا بي لجعل الاقتصاد المذكور أصلا من أصول أسباب الرقي الحقيقي لإخواني المغاربة، ما هم عليه في كثير من أحوالهم من مناقضة ذلك الأصل، وإسرافهم في أمور هُم بغنى عنها، وتكلّفهم في تحصيلها عِرْقُ القربة، فتكون عاقبتهم فراغ اليد، وحصول العسر، وضنك المعيشة. فعلينا أن نقتصد في كل أمر يمكن فيه الاقتصاد، ونصرف ما عسى أن يفضل بسببه في أمور تنفع في المعاش أو في المعاد”. ثم ذكر الشيخ بعض الأمثلة لما يقع فيه بعض المغاربة من إخلال اقتصادي، لاسيما في الأعراس.
الخاتمة: ومما جاء فيها قوله رحمه الله: “فالتمسوا إخواني الحكمة، ولو من غير حكيم، وتدبَّروا في تلك النصائح الخالصة إن شاء الله تعالى لوجهه الكريم. فعسى أن يصدق علينا جميعاً قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفعُ المومنين)”.
التقاريض: وفيها:
– قول العلامة الحافظ أبي شعيب الدّكالي رحمه الله: “فقد طالعت رسالتكم الغرّاء، فوجدتها جامعة مانعة في بابها، فللّه درّكم ما أطول طَيْلكم، جزاكم الله أفضل الجزاء، وما رأيتُ ما يُنتقد فيها، بل جميعها يدور في خَلَد أخيكم”.
– وقول العلامة نائب وزير العدلية والمعارف الحاج العربي الناصري رحمه الله: “…وبعد مطالعتي لها ألفيتُها رسالةً مطابقة لموضوعها، لطيفة في أسلوبها، جامعة النّصح والرّشاد، باعثةً الهمَم على ما فيه صلاح البلاد والعباد، مُبيِّنةً أسباب الحصول على ما فيه قوام المعاش، ونجاح المعاد، متضمّنة لأهم ما يتعيـّن نشره وتفهيمه وتعليمه في كلِّ صقع وناد”.
– وقول العلامة الكاتب اللّوذعي عبد الحفيظ الفاسي رحمه الله: “مَن يُنازع أنَّ الأمّة الإسلامية، لما كانت متمسّكة بدينها القويم، آخذة بتعاليم قرآنها الكريم، نابذةً للخُرافات، قاليَة للأوهام، مُتضلِّعة من العلوم، ما بين عمرانية واقتصادية وكونية وسياسية، مطبّقة بقواعدها على تعاليم الشّرع الحنيف، بلغت من الرّقي في كل شيء مبلغاً أدهش العالم، حتى امتد نفوذُها وحضارتُها إلى ما لم تصل إليه أمّة قبلها، كما يشهد بهذا التاريخ، ويشهد به كتابُه.
وإننا حين تركنا كل ذلك، وأخذنا إلى الكسل، بلغ بنا التأخّر والانحطاط إلى درجة ليس بعدها منتهى، حتى أصبحنا عالةً على غيرنا، وأمسينا في نظر المصلحين ثُـلْمَةً في الهيئة الاجتماعية، وفي نظر اللّامزين للدّين الإسلامي، مثالا للجمود والتّعصّب الذّميم، البريء منهما ديننا القويم. وإنني قد سرّحت الطّرفَ في هذه الخَميلة، وأجَلتُ طرف الفكر في محاسنها الجميلة، فوجدتها كفيلةً بأصول أسباب الرقي الحقيقي، جديرة بأن ينسج الكاتب على منوالها لإفادتها ونفعها، واحتياج الأمة لمثلها، عسى أن تنتبه من غفلتها، وتنهض من وَهْدَة سُقوطها، فتسترجع مجد سلفها…” إلى آخر إطرائهم رحمهم الله أجمعين. اهـ
رحم الله العلامة أحمد الصَّبيحي، وجزاه خيرا على ما قدَّم ونصح وبيـّن.