لا تخفى مكانة الأستاذ الفاضل الدكتور طه عبد الرحمن في المجال الفلسفي المغربي، وقد حاول الأستاذ -حفظه الله ووفقه- أن ينتقد التراث الإسلامي انتقاد تجديد -كما هو واجب علماء الشريعة- انطلاقا من منصات مختلفة، كان إحداها الفلسفة الأخلاقية الصوفية، وكان مما ناله اجتهاده منها علم مقاصد الشريعة الإسلامية في سياق عرضه لنظرية التداخل المعرفي في أصول الفقه خاصة، فكان نتيجة ذلك أن عرض بديلا عن أصول هذا العلم وتقسيماته كما وضعها الشاطبي تبعا لإجماع العلماء على معناها، مدعيا أن علم المقاصد هو نفسه علم الأخلاق أو التصوف، فقد زعم الأستاذ حفظه الله ووفقه للخير أن تقسيم العلماء للمقاصد الشرعية إلى ثلاثة أقسام، ضروريات وحاجيات وتحسينيات فيه عيوب منهجية، فاعترض عليهم بأنواع من الاعتراضات، ثم اقترح بديلا عنه.
فزعم أن هذا التقسيم الثلاثي للمقاصد أخل بشرط التباين، وادعى أن القيم -كما يسميها!- التي يتكون منها قسم الضروريات لا يستقل بهذا القسم، بل يشاركه القسمان الآخران، الحاجي والتحسيني، ومثَّل بتحريم الزنا الذي يعد حكما يحقق قيمة ضرورية، وتحريم النظر إلى عورة المرأة الذي يعد حكما يحقق قيمة حاجية، وتحريم تبرج المرأة الذي يعد حكما يحقق قيمة تحسينية وأنها كلها تشترك في حفظ النسل وبجواز الإفطار للمريض بكونه يحفظ النفس وهو من الحاجيات.
وأستأذن أستاذنا وهو صاحب الصدر الرحب في تطاولي عليه بهذه المتابعة فأقول:
يظهر لي أن هذا الانتقاد أخل بشرط التحقيق في فلسفة هذا التقسيم الثلاثي الرائع والمتقن من حيث الاعتبار المرتبط بطبيعة سؤال القصدية، ولم يوف طبيعة العلاقات بينها حقها من القراءة، فقد كانت المرتبة الأولى جوابا عن سؤال أصل الوضع: “لماذا وضعت الشريعة أصلا؟” فكان الجواب، لإقامة “التدين” الذي من أجله خلق الإنسان، والله تعالى يقول: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وضابط هذا التدين كل قول أو فعل ظاهر وباطن يرضاه الله تعالى حبا وتذللا ويثاب عليه، فهو إذن متعلق بالمصلحة الأخروية أصالة تتبعها في التحقق مصلحة دنيوية تقوم على تحصيل السعادة النفسية التي يحتاجها المتدين ليصل إلى كماله التعبدي، ثم حفظ النفس لأنها شرط في وجود هذا التدين، وحفظ العقل لأنه شرط في التكليف بالتدين والعبادة، وهو “مورد الخطاب الرباني”، وحفظ المال لأنه الوسيلة والمقيم للأنفس المتدينة من لباس وطعام وشراب فهو “مادة البدن” ، بل “المقيم لتلك الأوجه الأربعة” وحفظ النسل المنضبط لأنه ضمان استمراية جنس المكلف المتدين و”قوام النوع” ،و”بقاء عوضه في عمارة هذه الدار” ويجمع هذه الأربعة مسمى المصلحة الدنيوية الخادمة للمصلحة الأخروية.
وإنما صارت ضروريات لأن ما لا يقوم الضروري إلا به فهو ضروري، على أنني أنبه على أن هذه الأربعة الدنيوية ليست اختيارية كما نبه عليه الشاطبي نفسه، وهو مقتضى كونها ضرورية، فإنه “فيها مسلوب الحظ”، وهو ما لم يعتبره الأستاذ طه في انتقاده للتقسيم بكون إفطار الصائم رفعا للحرج والشدة يحفظ النفس وهو من الحاجيات، لأن مسألة إفطار الصائم يتعلق بها حظ المكلف، وله فيها اختيار في الأصل بخلاف الضروريات.
ويبين الشاطبي هذا الترابط بين هذه الضروريات في أكثر من موضع مثل قوله: “فلو عدم الدين (ويقصد التدين) عُدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش… وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة” . فمقصد وضع الشريعة هو “إقامة التدين”.
ثم تجيب المرتبة الثانية والثالثة عن سؤال صفة الموضوع “لماذا وضعت الشريعة بهذا الوصف خاصة؟” فكان الجواب: لأجل رفع الحرج والعنت عند ممارسة التدين، أو كما يقول حمادي العبيدي: “لتمكين المكلف من القيام بما كلف به دون أن تحول المشقة بينه وبين ذلك”، ثم لأجل تحسينها وتزيينها وتجميلها بما يناسب مكارم الأخلاق ويحفظ المروءات .
فمقصد وضع الشريعة بتلك الصفات “تيسير وتحسين التدين”. فصورة التباين الذي اشترطه الأستاذ طه حفظه الله غير مؤثرة، فإن انتقاده لم يحقق وجه التباين المعتبر والصحيح في التقسيم عند واضعيه وأن “كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري” ، وليس ثَم تداخل بين المراتب في أصل الوضع كما ظن الأستاذ، ولا يلزم من التشارك التداخل، وهو ما يفسر كون إفطار الصائم -وهو من الحاجيات- ينحو إلى حفظ النفس وهي كلية ضرورية فتنبه.
ثم اعترض بدعوى الإخلال بشرط تمام الحصر، فانتقد دعوى انحصار أصول الضروريات في خمسة بالاستقراء، واستدرك عليها أن بعض العلماء أضاف ما سماه “قيمة العدل” و”قيمة الحرية” و”قيمة التكافل”.
وعلى هذا جواب كاشف كاف، وهو أن هذه القيم هي أجزاء من الشريعة وأوصاف لها أولا، ووسائط خادمة لتحقيق المقاصد الكبرى ثانيا، وكذلك مفهوم الحرية والتكافل كما يفهم من صنيع ابن تيمية، فهي مقاصد وسيطة تنتشر جزئياتها وصورها في الشريعة نفسها، وموضع الكليات الأربعة الدنيوية خارج عنها، إذ هي متعلقاتها، وهذه القيم أدوات الشريعة لإقامة تلك الضروريات، وإلا فهي من “التدين” المراد حفظه، فليست زائدة ولا مزاحمة.
ثم اعترض بدعوى الإخلال بشرط التباين، وانتقد التقسيم بأن بعض الضروريات الخمسة يدخل تحت بعض، وهذا مخل بشرطية التباين فقال: “فلا حفظ للمال بغير حفظ العقل، ولا حفظ للعقل بغير حفظ النسل، ولا حفظ للنسل بغير حفظ النفس، ولا حفظ للنفس بغير حفظ الدين.
والجواب أن شرط التباين الذي ادعاه الأستاذ لا أثر له، ولست أدري كيف جعله مسلما، وإلا فهل تحقق شرط التباين عنده في أقسام الإيمان الستة وأركان الإسلام الخمسة؟ وقد نبه الشاطبي لهذا الترابط بين الكليات الخمسة، لكن بطريقة تفصح عن فلسفة عميقة في استنباط المقاصد الضرورية، وفيها إشارة إلى التكامل والترابط لا التداخل إلا بنوع من التكلف، وإلا فنفس اعتراضه موجه إلى التقسيم الذي اعتبره، فإنه جعل القيم ثلاثة: قيم النفع والضرر، وقيم الحسن والقبح، وقيم الخير والشر، ولا يخفى على أحد أوجه التداخل الظاهرة والكثيرة على مستوى حقائقها، ويصح الاعتراض عليها بعدم التباين، مع التنبيه على أوجه التشابه بين تقسيمه وتقسيم ماكس شيلر “Max Scheler” للقيم ، وهو ما سنتحدث عنه في مقال آخر إن شاء الله.
ثم اعترض بدعوى الإخلال بشرط التخصيص، فانتقد التقسيم بالنظر إلى أن بعض هذه القيم الضرورية هو جزء من الشريعة، -وهو نفس ما ينتقد على إضافة قيم “العدل” و”الحرية” و”التكافل” التي نقل الأستاذ- نفع الله به هذه الأمة- اعتراض بعضهم بها على الحصر على فرض صحة الاستدراك، وهي أولى، فزعم أن “الدين” هو “الشريعة”، فكيف يكون مقصودها؟!
والجواب أن الأستاذ طه بارك الله لنا فيه ووفقه للخير ربما لم ينتبه إلى أنهم يقصدون بـ”الدين” “فعل التدين” لا “الشريعة”، ولابد أن الشاطبي “تفطن تمام التفطن” لهذا، وهو إمام المقاصد، فإنه جعل “التدين” في مقابل “النفس” و”النسل” و”المال”، وبأقل مجهود نظر، يُستنتج أن المقصود من “الدين” هو “التدين” أو “حصول الاستجابة للتكليف” و”تحقيق القصد من الخلق” بمعنى استصلاح النفس بتوحيد الله “وعمارة القلب بذكره والتذلل له والانقياد تحت حكمه ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه” بالعبادة ونفع الخلق وما يترتب عليهما من الجزاء الأخروي، ويتبع إن شاء الله.