سلسلة جوانب من منهج السلف في تربية الأطفال الجانب الأدبي (5) ذ.رضوان شكداني

لقد حث الإسلام على التزام الآداب والفضائل التي تدخل في كل شأن من شؤون الحياة فتنظمها وترتبها، وهي من أسباب السعادة في الآخرة كذلك، كالأدب مع الله تعالى ومع رسوله ومع الوالدين ومع العلماء ومع الأمراء، وكذلك الآداب المتعلقة بالنفس كآداب الطعام والشراب وآداب السلام وآداب المجلس وآداب العطاس والتثاؤب وآداب النوم…
قال ابن القيم -رحمه الله-: “وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب” مدارج السالكين 2ـ291.
ومن منهج السلف الكرام تعويد أطفالهم محاسن الآداب، وتربيتهم عليها منذ الصغر لكي تكون لهم هذه الآداب ملكات راسخة ثابتة في نفوسهم.
قال ابن قدامة -رحمه الله-: “إن الصبي أمانة عند والده وقلبه جوهرة ساذجة، وهي قابلة لكل نقش فإن عود الخير نشأ عليه وشاركه أبواه ومؤدبه في ثوابه، وإن عود الشر نشأ عليه وكان الوزر في عنق وليه، فينبغي أن يصونه ويؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق” مختصر منهاج القاصدين ص 160.
قال الماوردي -رحمه الله-: “فأما التأديب اللازم للأب فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب ليأنس بها، وينشأ عليها، فيسهل عليه قبولها عند الكبر لاستئناسه بمبادئها في الصغر، لأن نشوء الصغر على الشيء يجعله متطبعا به، ومن أغفل تأديبه في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيرا” أدب الدنيا والدين ص:233.
قال الشاعر: كما
حرض بنيك على الآداب في الصغرِ **** كيما تقر بهم عيناك في الكبرِ
وإنما مثل الآداب نجمعها في **** عنفوان الصبا كالنقش في الحجرِ
وقال آخر:
قد ينفع الأدبُ الأحداثَ في مهلٍ *** وليس ينفع بعد الكِبْرَة الأدبُ
إن الغصون إذا قوَّمْتَها اعتدلت *** ولا تلين إذا قومتَها الخشُبُ
ومما يدل على ضرورة تنشئة الأطفال على الآداب الفاضلة، قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً” [التحريم:6] قال أميرُ المؤمنين عليٌّ -رضي الله عنه-: “أدِّبوهم وعلِّموهمُ الخيرَ” تفسير ابن كثير 4/391.
ومن التوجيهات القرآنية في حث الأطفال على محاسن الآداب، ما ذكره الله -عز وجل- عن لقمان الحكيم في وصاياه لورده بقوله: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير﴾ لقمان:18-19.
قال ابن عاشور-رحمه الله-: “انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفاخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعد نفسه كواحد منهم” التحرير والتنوير 22ـ167.
ومما جاء في النصوص الشرعية المتعلقة بفضل الأدب والتأديب، ما ورد عن أبي بردة عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، والعبد المملوك إذا أدى حق الله تعالى، وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران” رواه البخاري برقم:97 واللفظ له ومسلم برقم:154.
ومن حرصه -صلى الله عليه وسلم- على تأديب الأطفال، ما ورد عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كنت غلاماً في حَجْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام: سمِ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، فما زالت تلك طعمتي بَعْدُ” رواه البخاري برقم 5061 ومسلم برقم 2022.
ومما يدل على حرص السلف على تأديب أطفالهم ما ورد عن جابر -رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي حين استأذنته هل تزوجت بكرا أم ثيبا فقلت: تزوجت ثيبا. فقال هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك قلت: يا رسول الله توفي والدي أو استشهد ولي أخوات صغار فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن فتزوجت ثيبا لتقوم عليهن وتؤدبهن” رواه البخاري برقم3003.
وعن أبي بردة قال: “دخلت على أبي موسى -رضي الله عنه- وهو في بيت بنت الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- فعطست فلم يشمتني وعطست فشمتها فرجعت إلى أمي فأخبرتها فلما جاءها قالت: عطس عندك ابني فلم تشمته، وعطست فشمتها، فقال: إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وعطست فحمدت الله فشمتها. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه” رواه مسلم 2992.
وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-: “أدب ابنك فإنك مسئول عنه، ماذا أدبته وماذا علمته؟ وهو مسئول عن برك وطواعيته لك” كتاب العيال لابن أبي الدنيا برقم 331.
قال علي بن الحسين -رحمه الله- لابنه: “يا بني اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له” حلية الأولياء لأبي نعيم 3ـ138.
وعن يحيى بن أبي كثير -رحمه الله- قال: قَال سليمان لابنه: يا بنيّ، لا تقطع أَمرا حتَّى تشاور مرشدا، فإنّك إذا فعلت لم تحزن عليه” الأدب لابن أبي شيبة 42.
قال القرافي -رحمه الله-: “واعلم أن قليل الأدب، خير من كثير من العمل، ولذلك قال رُويم -العالم الصالح- لابنه: يا بني اجعل عملك ملحا، وأدبك دقيقاً. أي استكثر من الأدب حتى تكون نسبته في الكثرة نسبة الدقيق إلى الملح، في العجين” كتاب الفروق3ـ96.
قال الفضيل ابن عياض -رحمه الله-: “اللَّهم إني اجتهدت أن أؤدب عليا، فلم أقدر عَلَى تأديبه، فأدبته أنت لي” سير أعلام النبلاء للذهبي 8ـ445.
وقال إبراهيم بن الحبيب بن الشهيد، قال لي أبى إئت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم فإن ذاك أحب لي من كثير من الحديث” الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي 1-17.
وقال بعض السلف لابنه: “لأن تُعلم بابا من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين بابا من أبواب العلم” أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني ص:11.
قالَ عبد الله ابن المبارك -رحمه الله- قال لي مخلد بن الحسين رحمه الله: “نَحْنُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الحَدِيثِ”. لباب الآداب ص3.
حكى عن محمد بن على القصار -رحمه الله-: أنه كان له أهل وولد، وكانت له ابنة، وكان جماعة من أصدقائه عنده يوما، فصاحت الصبيه: يا رب السماء يزيد العنب، فضحك محمد وقال: قد أدبتهم بذلك حتى إذا احتاجوا إلى شيء يطلبونه من الله تعالى” اللمع لأبي نصر السراج الطوسي ص:264.
فالمرء يشرف قدره عند ربه بدينه وخلقه وينبل بسلوكه وحسن أدبه، لا بحسبه وسمعته ونسبه.
كما قال الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك محموده عن النسب
فليس يغني الحسيب نسبته ** بلا لسان لــه ولا أدب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ** ليس الفتى من يقول كان أبي
وقال آخر:
أيها الفاخر جهلا بالنسـب ** إنما النـــــــــــــــاس لامٍ ولأب
هل تراهم خُلقوا من فضة ** أم حديد أم نحاس أم ذهــــــــب
بل تراهم خُلقوا من طينـة ** هل سوى لحمٍ وعظمٍ وعصب
إنما الفخر لعقلٍ ثابـــــــت ** وحياءٍ وعفــــــــــــافٍ وأدب
وقال آخر:
لكل شيءٍ زينةٌ في الورى ** وزينةُ المرءِ تمامُ الأدبْ
قد يشرفُ المرءُ بآدابِه ** فينا وإن كان وضيعَ النسبْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *