توصيف الفترة
إن استعراض المرحلة السعدية يترك انطباعا مبدئيا بأنه لم يكن ثمت انقطاع حقيقي، أو انتهاء لفكر أو مرحلة وسط بين فكر قديم وحديث من كل وجه، والمعطيات التاريخية للمرحلة تؤكد أنها لم تكن خارجة عن سياق حركة الفكر الإسلامي في المغرب، والإنصاف يقتضي عدم إهمال هذه الفترة التي مرت بأدوار ثلاثة، أو مراحل ثقافية ثلاثة، مرحلة فاس ومرحلة مراكش ومرحلة الكسوف كما يسميها محمد حجي في «الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين»، والتي كان لها وفق حجي «مراكز ثقافية» في المدن والبوادي، شارك في نشاطها عناصر أندلسية بالخصوص، ونبغ فيها جملة من المفكرين العلماء، ونشطت المدارس خاصة في سوس والتي أوصلها المختار السوسي -تحت عنوان: «مدارس سوس العتيقة»- إلى نحو 200 مدرسة، وعد خمسين منها لامعة، وكانت «مدارسَ شعبيةً يقوم بها الشعب بجهوده الخاصة…أدت في هذه القرون الماضية الواجبَ للعربية ولعلومها»، وكان معظمها موجودا في العهد السعدي كما يقول محمد حجي.
ذروة سنام الفترة
ولعل مرحلةَ السلطان أحمدَ المنصورِ تمثل ذروة سنام العهد السعدي فكريا وسياسيا وعسكريا، فقد «ازدهرت الناحية الفكرية بوجه خاص زمن المولى أحمد المنصور ازدهارا عظيما، تجلى في تزايد معاهد العلم والدراسة، وفي كثرة العلماء وطلبة العلم، وتعدد مجالات اختصاصهم»، بل أبدى اهتماما خاصا بالنهضة العلمية بأوروبا وازدهرت في عهده حركة تعريب العلوم، كما أولى اهتماما بالاطلاع على المخترعات العلمية بأوروبا أيضا والاستفادة منها .
وعودا على مرحلة الكسوف الثقافي كما وصفها محمد حجي، «نتيجة للركود العام الذي أصاب الحياة الفكرية»، والتي تميزت بانتقال الحركة العلمية إلى محضن بعض الزوايا المغربية من أمثال الزاوية الدلائية والناصرية والفاسية، فرغم أن هذه المرحلة كانت مرحلة اضطراب، فقد وجدنا آثارها «في شتى العلوم في المغرب في هذا العهد وما بعده، فنقف معجبين كيف احتفضت هذه الأمة بحيوتها وعبقريتها حتى في أوقات الاضطراب والخوف».
تحقيق الفجوة الفكرية
لقد كانت الزاوية الدلائية أبرزها وأظهرها، والتي اطمأن محمد حجي إلى أنها تأسست سنة 974 هـ، والتي شاهدت «في بداية عهدها العصر الذهبي للسعديين، ثم أدركت زمن الفتنة والتدهور، غير أنها لمناعة موقعها في جبال الأطلس ولمكانة رجالها الصالحين، استطاعت أن تحتضن الثقافة الإسلامية في عصر عصفت فيه الاضطرابات بالمراكز العلمية التقليدية مثل فاس ومراكش، وعمرت الزاوية الدلائية زهاء قرن ظلت فيه مركز إشعاع للعلم والدين»، إلى أن خربها السلطان الرشيد بن الشريف العلوي سنة 1079 هـ. وسيكون لبعض المنتسبين إليها مع جامعة القرويين اليد البيضاء في أوائل إرهاصات النهضة التي ستكون موضوع البحث فيما يأتي إن شاء الله.
الملاحظة التي يمكن تسجيلها أن المرحلة السعدية لم تكن بذلك السوء الذي قد يفهم من منطوق دعوى النهضة بعدها، وأنه إن كان ولابد من تحميل المرحلة السعدية جزءا من القهقرى في تاريخ الفكر الإسلامي والثقافة في المغرب فيقتصر على مرحلة الكسوف، أضف إليها الجزء الأول من المرحلة العلوية إلى زمن السلطان إسماعيل، فـ«لو صح ناموس النشوء والارتقاء، وكان كل شيء في هذا الوجود مطردا مستمرا يتصل أوله بآخره، وترتبط أطرافه بعضها ببعض، لكان للمعارف اليوم في بلاد المغرب شأن غير هذا الشأن، إذ قد رأيت ما كانت عليه من التقدم والانتشار في عصر المرينيين، فما ظنك لو بقيت سائرة نحو غايتها القصوى من التكمل والنماء منذلك العهد إلى الآن».
هكذا يصور عبد الله كنون الفجوة السعدية في تاريخ الفكر الإسلامي في المغرب، وينحو إلى منحى التعليل والإنصاف في هذا، فيصف المرحلة السعدية بمرحلة التوقف الثقافي مع نوع حركة مغمورة في بحر راكد، ولا أدل على هذا من انصراف الناس إلى تأليف المختصرات والاشتغال بها شرحا وتحشية والدوران في فلكها، ومن ذلك كتاب «المرشد المعين» لعبد الواحد ابن عاشر، وهو من علماء الفترة السعدية..
ويخص عبد الله كنون علم الكلام بوجود ما «حفز الهمم للاشتغال به، وهو تلك المناظرة العنيفة التي قامت بين الشيخين الخروبي واليسسثني أولا، وبين هذا الثاني والشيخ الهبطي ثانيا، في مسألة الهيللة، هل الحق سبحانه وتعالى مما يدخل في النفي بـ«لا». وهل تنتفي بها ألوهية الصنم وغيره مما عبد من دونه باطلا أم لا؟
وقد استمرت هذه المناظرة زمانا طويلا، وثار بسببها شر كبير بين العلماء حتى تدخل السلطان نفسه فيها ولم يجد ذلك شيئا، وبقيت المسألة على حالها إلى أن تأدت إلى العصر العلوي».
بل ألف الهبطي هذا وابنه في الموضوع رسائل، ومع هذا فلم يكن هذا الاشتغال إلا حركة يد في حجرة مظلمة، ثم يعد كنون ما ألف في المنطق وعلم التوحيد سردا فيذكر شروحا لكبرى وصغرى السنوسي وبعض الحواشي عليهما وهو يدل على نوع ركود في الدرس الكلامي في العهد السعدي.