واقع التعليم الأصيل في المغرب..تهميش واستهتار شعبة بدون مقررات دراسية وأستاذ واحد يدرس ست مواد إبراهيم بيدون

يعتبر التعليم الأصيل الشكل التعليمي النظامي الوحيد الذي يدرس العلوم الشرعية ويعتبرها مواد أساسية في مقراراته، وهو التعليم الذي كان في المغرب قبل عهد الاحتلال الفرنسي الذي أحدث التعليم العصري ليحارب به النظام التعليمي المغربي الذي كان يولي اهتماما كبيرا لتعليم العلوم الشرعية.

والأصيل والعتيق وصفان ألحقا بالتعليم الإسلامي القرآني، ليضفيا على التعليم المنسوب إليهما بعدا ماضويا قديما لا يواكب التطور الذي عرفه هذا الزمان، لأن التعليم الأصيل لا ينشغل إلا بدين الإسلام والعلوم المتعلقة به، أما التعليم “العتيق” فيرتبطُ في الغالب بالقرآنِ وعلومه، فهما إذن لا يخدمان المشروع التنموي الذي سلكه العالم المتقدم قبلنا ونطمح للوصول إليه، فالحل هو تهميشه أمام التعليم العصري الغني بمواده الأدبية والعلمية والتقنية.. والتعليم الخصوصي المرتبط بالأنظمة التعليمية للغرب والذي يربي النشء على القيم الغربية العلمانية.
والقصد من وراء ذلك فصل القرآنِ والسنة عن مناهجِ التعليم الرسمية، في خطة لعزلهما عن ممارسات الفرد والمجتمع، لما يحملان -على حد زعم العلمانيين الذين يتولون كِبْر هذا المكر- من قيم ضد التسامح والتعايش والحوار، ويقيدان حرية الأفراد والأنظمة في الانفتاح على الغرب بكل ما يحمله من قيم حداثية موغلة في المادة، إذا ما أردنا تحقيق الرخاء الاقتصادي والانضمام لمنظومة الدول التي تتمتع بالحريات وتحيى وفق القيم الكونية.

جامعة القرويين والمعاهد الدينية بين حرب التهميش والإلغاء
وتندرج في نفس السياق الحرب الضروس التي خاضها المحتل الفرنسي ضد جامعة القرويين ووقوفه دائما أمام أي إصلاح يمكن أن يؤدي إلى انبعاث روح المقاومة والجهاد عن طريقها، وبعد اندحار الاحتلال على أيدي المجاهدين المغاربة، واصل بقايا فلول المحتل والتي تمثلت في المد الفرانكفوني وعملاؤه هذه الحرب على التعليم الأصيل والعتيق، فبمجرد خروجه عَمَدَت وزارة التعليم إلى محاولة تدميرِ كيان هذه الجامعة العتيقة والحدِّ من نشاطها العلمي والدعوي، فضلاً عن الإلغاءِ الفعلي لجامعة ابن يوسف بمراكش والمعهد الإسلامي بتطوان. وأما المعهد الإسلامي بتارودانت فأدمج سنة 1965م في سلك التعليم الرسمي/الأصيل تحت لواء وزارة التربية الوطنية ليعاني وغيره من المدارس والمعاهد الدينية التهميش والنسيان.

وفي هذا الصدد يقول “علال الفاسي” رحمه الله: “إذا استمرت -هذه المحاولات التي تقوم بها الوزارة- فستؤدي لا محالةَ إلى محوِ هذا التعليمِ بالمرة، وذلك ما يريده المتآمرونَ عليه من وراء الستار، وهم المستعمرون الذين طالما كتبوا ضد التعليم القرآنيِّ وطالبوا بما ينفذه اليومَ في عهد الاستقلالِ أناس اندسُّوا في إدارتنا وأخذوا يتآمرون على ديننا وثقافتنا..”.
فرغم المجهودات التي بذلها الكثير من العلماء والمصلحين الذين لهم غيرة على العلوم الشرعية لإرجاع قيمة وهيبة جامعة القرويين(1)، والعناية بالتعليم الأصيل -الذي وصل تهميشه حد طلب فصله عن وزارة التربية الوطنية-، بقي التعليم الديني بالمغرب يعاني من التهميش في مقابل صعود نجم المدارس والجامعات العصرية وليدة الاستعمار، لأن المآل الذي يقاد له المغرب هو التنكر لماضيه الديني، ولإخراج أجيال لهم تكوين غربي وليس لهم من الهوية المغربية إلا الانتماء الجغرافي، والمحافظة على التعليم الأصيل ضرورة دينية وهي الكفيلة بالمحافظة على الوجود الإسلامي بالمغرب (انظر كتاب: “مواقف وآراء رابطة علماء المغرب” ص:64/66/68).
ولقد وقف المجلس الأعلى لرابطة علماء المغرب منذ تأسيسها (سنة 1960م) في شخص أمينها الشيخ عبد الله كنون رحمه الله في وجه كل محاولات فرنسة التعليم المغربي وتهميش اللغة العربية وازدواجية اللغة في التعليم الابتدائي، كما أنها اتخذت موقفا حازما بخصوص تدريس الأساتذة الفرنسيين في جامعة القرويين لأن هذه المعاهد الدينية لابد أن تبقى سالمة من الغزو الفرنسي (كتاب: “مواقف وآراء رابطة علماء المغرب” ص:71).
لكن الأمر آل إلى غير ما كان العلماء يناضلون من أجله حيث كانت الغلبة للمد العلماني الذي لم يأل جهدا في حصار التعليم الأصيل وشعبة الدراسات الإسلامية ومادة التربية الإسلامية.

معاناة التعليم الأصيل ومادة التربية الإسلامية
من تجليات هذه المعاناة التهميش الذي يعرفه التعليم الأصيل في المنظومة التربوية وقلة مؤسساته، فأكبر المدن قد تجد فيها مؤسسة واحدة رغم توصيات اجتماع هيئة مديري التعليم الأصلي المنبثقة عن رابطة علماء المغرب المنعقد بمركز الرابطة بالرباط سنة 1962م بخصوص إحداث معاهد أصلية تابعة لجامعة القرويين بالمدن والقرى التي يكثر بها السكان، هذا بالإضافة إلى أن “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” لم يخصص لفائدة “التعليم الأصيل” إلا مادةً يتيمةً من سبعة أسطر تُعَدُّ مرجعَ تنظيم التعليم الأصيل وتأهيلِه!، رغم أن أول مادة في الميثاق تنص على أن نظامه يهتدي بمبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها، كما أن المادة الثانية تنص هي كذلك على أن النظام التربوي قائم على ثوابت ومقدسات يجليها الإيمان بالله، والعقيدة الإسلامية والإيمان بالله يقومان على نصوص القرآن والسنة، فلماذا إذن يتعرض التعليم الأصيل للتهميش، وتحارب شعبة الدراسات الإسلامية، وتضايق مادة التربية الإسلامية؟
وإمعانا في التهميش والحرب ما فتئ العلمانيون يطالبون بإلغاء مادة التربية الإسلامية والتقليل من ساعات تدريسها، واعتماد معامل ضعيف لهذه المادة يوازي معامل التربية البدنية باعتبارها مادة ثانوية، بخلاف الفلسفة فهي تحظى باهتمام كبير من طرف منظري التربية والتكوين لكون الفلسفات المادية هي المؤسس الرئيس للفكر العلماني، وقبل إحداث شعبة الدراسات الإسلامية كان مدرس التربية الإسلامية يتم اختياره من شعب أخرى كشعبة اللغة العربية أو الفلسفة وهو ما يوضح ضعف التكوين الديني عند التلاميذ واستخفافهم بهذه المادة.

الثانوية التأهيلية الفقيه التطواني نموذج للاستهتار بالتعليم الأصيل
تعتبر الثانوية التأهيلية الفقيه التطواني المشهورة باسم “البلاطو” المؤسسة الوحيدة في مدينة سلا التي تدرس شعبة التعليم الأصيل بالإضافة إلى أن بها شعبا أخرى تضم تلاميذ ذوي أخلاق منحطة حيث يشربون السجائر داخل القاعات الدراسية، وفتيات شبه عاريات يلبسن آخر موضات العري، يتهتكن مع فتيان منحلين بباب الثانوية مما يؤثر سلبا على سلوك التلاميذ الملتزمين بتعاليم الدين الإسلامي وقيم الحياء والفضيلة.
إن التهميش الذي يطال شعبة التعليم الأصيل وكذا ضعف أساتذتها يجعل الإقبال على التسجيل فيها ضعيفا، فتلاميذ مستوى السنة الأولى علوم شرعية في المؤسسة المذكورة كلها لا يتعدى عددهم عشرة تلاميذ سبعة ذكور وثلاث فتيات، وهم يعانون من ضعف التدريس الذي يتلقونه من أستاذهم الوحيد المشرف على تدريس كل المواد الشرعية في هذه السنة، وهي مادة التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والفرائض والمواقيت، فلماذا لا توفر الوزارة الوصية أستاذا لكل مادة؟ أليس هذا منتهى التهميش والاستهتار بهذه الشعبة؟
ولا يقتصر هذا التهميش والاستهتار على عدم توفير أستاذ لكل مادة وإنما يتعداه إلى غياب تام للمقررات الدراسية وكأن هذه الشعبة ليست كباقي الشعب باستثناء كتاب وحيد في مادة المواقيت (المنار في الفرائض والتوقيت).
فهل يا ترى سيبقى التعليم الأصيل يعاني من التهميش والإلغاء حتى يصل إلى النتيجة الحتمية التي يريدها له بنو علمان المؤيدون بالمواثيق الدولية ويلغى من منظومة الشعب التي تدرس بالمغرب الإسلامي؟
ومتى سيفهم القائمون على الشأن التربوي أن التعليم الديني يحتاجه جميع المغاربة حتى يحافظوا على هويتهم الإسلامية، ويكونون محصنين من أية منظومة أخلاقية جديدة، بدأت تظهر سحائبها في الأفق!؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في أواخر الثمانينيات أمر الملك الحسن الثاني رحمه الله بإعادة الحياة إلى جامع القرويين وإعادة الدراسة به حسب النظام القديم، لكنه لم يعرف تطورا ملموسا.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *