غير بعيد عنا، في فبراير من عام 2016م، عقدت أكاديمية المملكة المغربية ندوة بمقرها بعنوان “الطب بين متطلبات البحث العلمي والالتزام الأخلاقي” تكريما للبروفيسور “عبد الكريم بربيش”، ولفت نظري محاضرة استبطنت أكثر مما استظهرته، ألقاها الأستاذ جاك طيسطار الفرنسي “Jaques Testar” عن موضوع حصَّل الحضور الأقوى في كثير من المحافل العلمية والمقالات والمجلات المحكمة بسبب محله الظاهر في الحركة العلمية، بل والفكرية والفلسفية في القرنين العشرين والحادي والعشرين على وجه الخصوص، وهو موضوع يكتسي أهميته الخطيرة من كونه متعلقا بالإنسان نفسه، بل بما سيصير عليه الإنسان.
لا يختلف الباحثون اليوم في أن القضية موضوع المقال تجاوزت كونها ظاهرة علمية إلى أن صارت تعد أيديولوجية ومذهبا فكريا وفلسفة أخلاقية، بل قريبا من دين يتدين به، أقرب ما يكون إلى دين الإلحاد، إذ يبدو بكل وضوح أن موضوعها هو أحد أدوات الإلحاد في العالم اليوم، ولذلك واجهت الأوساط العلمية المنتصرة بقوة، لم تعد قضية “Le Transhumanisme” أو ما يصطلح عليه بـ”ما بعد الإنسان” قضية تخص أصحابها أو الموطن الذي بدأت فيه وهو الولايات المتحدة الأمريكة، بل صارت قضية وظاهرة عالمية، فقد امتدت ظلالها إلى القارة العجوز تحت مسميات مختلفة، مع ما لاقته من معارضته قوية، خاصة فرنسا، وكان منهم جاك طيسطار الذي استعرض أصول القضية ومعالمها بطريق النقد السلبي غالبا.
هناك تحفظ ابتدائي على الترجمة العربية، فأقرب معنى للأصل الإنجليزي هو “عبور الإنسان لنفسه” ويكون مفهوم “ما بعد الإنسان” مرحلة متأخرة منه، بل المقصد الأخير، وهو الوصول إلى الإنسان المتطور، وتحت هذه الكلمة ينبغي وضع ألف خط.. أحمر.
يبدو أن التطوريين يقاسون الأمرين وهم يلاحظون ثبات الإنسان العاقل “L’homosapien” على خلقته منذ مئات آلاف السنواتدون حدوث أي تطور إيجابي يرفعه لمرتبات خلقية أعلى، ولذلك التجؤوا إلى أن يطوروه بأنفسهم، فاحتاجوا إلى تأصيل ذلك بشيء علمي حتى لا تنكشف الأغراض الاعتقادية بل والتجارية من القضية كلها، فأسسوا ذلك على نفي ثنائية التكوين البشري “روح- بدن” زاعمين أن الإنسان عبارة عن آلة بيولوجية في السبيل إلى التوطئة العلمية والأخلاقية لدمج الآلة الصلبة مع هذه الآلة الرطبة، حتى تصير الآلة وهي الأكثر تطورا حاكمة وموجهة وحافظة بل مقوية لهذا الكائن الذي تأخر تطوره كثيرا.
قد يستغرب بعض القراء من أن الأصل في هذه القضية قديم وغريب، وليس أنسب من أن يكون أصلها من عمق الثقافة الأسطورية اليونانية الوثنية، ولعل قصة بروميثيوس صانع الإنسان أنسبها كما يقول لوك فيري، فبعد الهدوء الذي حل بالأولمبياد، وتوقف القتال بين الآلهة، وبعد الملل الذي أصابها سيكون بروميثيوس مطالبا بصناعة الإنسان ذي المؤهلات الذاتية التي تمكنه من أن يصير إلاها كاملا أو على الأقل “نصف إلاه”، وبتعبير أصحاب النظرية “نصف آلة”.
منذ أن بدأت هذه الحركة في “ستينيات” القرن الماضي في كاليفورنيا، والأحداث تتوالى بطريقة سريعة جدا، وتقوم القضية اليوم على ثمانية اختراعات أعمدة من الثورة الثالثة، تجمع الأربعة الأولى منها في كلمة “NBIC”، وهي على التوالي، النانوتكنولوجيا والبيوتكنلوجيا والذكاء الاصطناعي والدراسات المتعلقة بالمخ وعملياته، وقد وصلت الأبحاث إلى مراحل متطورة جدا، وكان لها من الوقع الحسن الشيء الكثير على مستوى علاج بعض الأمراض ومد يد المساعدة التقنية لكثير من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكن هذا لم يكن الغرض الأساس من كل كهذه الحركة العلمية، بل كان الغرض متجاوزا ذلك كله، متجاوزا الغرض العلاجي إلى غرض تحسين الجنس البشري، بالتدخل في خلقته الأولى، على المستوى الجنيني وما قبله، للتحكم في أنواع الجنس البشري وخصائصه الذاتية لصناعة الإنسان الخارق السليم من كل الأمراض، وقبيل تحقيق هذا، فإن ما وصلت إليها لأبحاث في الجانب العلاجي شيء مدهش.
هناك سؤال طريف لكنه خطير عرضه بعض الباحثين المنتقدين لهذه الحركة، يتعلق بمن سيكون له الحق في التحكم في كل ذلك، فمن تولى هذا الأمر سيكون في مقام الإله المتصرف في خلقه، بل المبدل لخلق الله تعالى، وقبل الدخول كثيرا في الموضوع في المقال المقبل إن شاء الله أنبه القارئين…على أن الموضوع انتقد في مقر “أكاديمية المملكة المغربية”!