إن الله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرما، ولذلك فإنه تعالى أبى أن يعذب أحدا من عباده حتى يأخذ عليه ميثاقين غليظين:
أما الميثاق الأول: فهو ميثاق عام أخذه الله على جميع بني آدم من غير استثناء، وقد أقررنا به جميعا ثم -لحكمة يعلمها الله- أُنسيناه فلا يذكره منا أحد، فَهَلُمَّ معي أخي القارئ لنطَّلع على تفاصيل هذا الميثاق من خلال نافذة السنة والكتاب.
هنالك من عالم الذر، ومن وراء حُجُب الغيب العميق يكشف لنا القرآن الكريم عن ميثاق عظيم أخذه الله علينا بوادي نَعمان، ونحن في أصلاب الآباء والأجداد، قال تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ” (الأعراف172).
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنَعمان (يعني عرفة) فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر(صغار النمل) ثم كلمهم قبلا (عيانا) قال: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون” )رواه أحمد وصححه الألباني).
وقد جاء في السنة الصحيحة ما يفسر قوله تعالى: “ألست بربكم” ، فعن أنس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يُقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم! فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي” متفق عليه.
وهذا الميثاق وإن كنا قد نسيناه، فإن من آثاره هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي تشهد لله بالوحدانية. روى ابن جرير عن ابن عباس قال: خلق آدم، ثم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر، فكلمهم ثم أعادهم في صلبه، فليس أحد إلا وقد تكلم فقال: ربي الله، وكل خلق خُلق فهو كائن إلى يوم القيامة، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها”.
قال المحدث الألباني في سلسلته (4/163): “…ثم إنه ليلوح لي أننا وإن كنا لا نتذكر جميعا ذلك الميثاق الرباني- وقد بين العلماء سبب ذلك- فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي تشهد فعلا بأن الله هو الرب وحده لا شريك له، إنما هي أثر ذلك الميثاق”.
هذا هو الميثاق الأول فأين الوفاء يا أمة الإسلام؟ أين الوفاء؟
أضرحة تعبد وأشجار تقصد، تمائم تعلق وسحرة تصدق…
أين نحن من قولنا ذلك اليوم “بلى” حين سألنا الرب عز وجل “ألست بربكم”؟!
وأما الميثاق الثاني: فهو المذكور في قوله تعالى: “وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ” (المائدة7).
قال ابن جرير: “يعني به ميثاق الله الذي واثق به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له فيما أحبوا وكرهوا والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله”.
وقال القرطبي: “هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا سمعنا وأطعنا كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة”.
يشير إلى ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا”.
فإن قيل هذا الميثاق أخذ على الصحابة ولم يؤخذ علينا، فالجواب أن كل من شهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهو داخل فيما دخل فيه الصحابة تبعا، وكأنه يقول بلسان حاله: أنا على ذلك الميثاق.
قال الشيخ السعدي: “وليس المراد بذلك أنهم- أي العباد كلهم- لفظوا أو نطقوا بالعهد والميثاق وإنما المراد أنهم بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما”.
وقال الجزائري في قوله تعالى: “إذ قلتم سمعنا وأطعنا”، قد قالها الصحابة بلسان القال عندما بايعوا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة”.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى مخاطبا بني إسرائيل: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة63)، وقوله:”وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ” (البقرة84)، فإن الله تعالى خاطب بهذه الآيات أهل الكتاب الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخذ الميثاق على الذين كانوا في عهد موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن لما آمنوا بموسى وأقروا بما جاء به كانوا داخلين في المواثيق التي أخذت على أسلافهم. وعليه فما أخِذ على الصحابة من المواثيق قد أخذ علينا نحن أيضا. فيصح أن يكون الخطاب في قوله تعالى: “وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا” موجها إلينا كما كان موجها إلى الصحابة الكرام.
فأين الوفاء؟ يا أمة الإسلام أين الوفاء؟
أين السمع والطاعة لرسوله في المنشط والمكره؟؟ أين التمسك بالسنة؟؟
هذان هما الميثاقان، وهما في رقبة كل مسلم، فمن وفى بهما أفلح وأنجح ومن خان فإنما يضر نفسه.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: “إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالق إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة”.
وإلى الميثاقين أشار الشيخ حافظ الحكمي في منظومته “سلم الوصول إلى علم الأصول”:
وأخذَ العـهـدَ عليهم أنَّهُ *** لا ربَّ معبـودٌ بحقٍّ غيرَهُ
وبعدَ هذا رُسله قد أرسَلا *** لهُم وبالحقِّ الكتابَ أنـزَلا
لينـذِروهـُم ويُبشِّروهُـم *** ثـمَّ بذا العهدِ يذكِّروهم
كيلا يكونَ حجَّة للناس بل *** لله أعلى حجةٍ عز وجـل
فَمَن يُصدِّقهم بلا شِقـَاق *** فقد وفىَّ بذلك الميثــَاق
وذاك نَاجٍ من عذابِ النارِ *** وذلك الوارثُ عقبَى الـدارِ
ومَن بآياتِ الإلهِ كذَّبـا *** لازم الإعراضَ عنـها والإبَا
فذاكَ ناقِضٌ كِلا العهدين *** مستوجبٌ للخِزيِ في الدَّارَين
فلنتق الله عز وجل ولْنَفِ لربنا بما أخذ علينا من مواثيق، ولا نكن كالذين قال الله فيهم:
“أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ” (البقرة100).