كل الطرق الصوفية على غير المذاهب الفقهية (1/3) د. محمد وراضي

يجري الحديث في العلوم التجريبية عن الفروض، وهذه كي تصبح قانونا أو قاعدة، لا بد من إخضاعها للتجريب؛ وعنوان هذا المقال بالنسبة للمتدينين المفترضين عندنا، ليس فرضا ذا دلالة علمية، وإنما هو في نظرهم مجرد محاولة مني لتقديم صورة سيئة عن واقع مثالي ينتصب أمامنا شامخا في بلد أسفرت الدراسات الميدانية المزعومة عن كونه يحتل المرتبة الثالثة عالميا في التدين! بعد كل من مصر وبنغلاديش! (تنظر الخريطة الصادرة عن معهد «غالوب» الأمريكي منذ أعوام).
والفروض في هذا المقال ليست هي الواجبات الدينية الفقهية كما يتبادر إلى الأذهان، وإنما نقصد بها مفرد الفرض، أو الفرضية التي هي تفسير مؤقت لوقائع أو لأحوال؛ إنها في البداية ظنية، وإن أيدتها التجربة أصبحت قاعدة عامة، وإن لم تؤيدها، بقيت رهينة الظن والتخمين؛ فصح أن يتم رفضها خاصة متى كان موضوعها ظاهرة اجتماعية عامة كالتدين!
ففي «المدخل إلى الطب التجريبي» يقول كلود برنار: «فرضت أن منع الأرانب من الأكل مدة من الزمان، يحولها إلى حيوانات آكلة للحوم»! وما افترضه هنا لن تقبل به العقول بدون ما أدلة مخبرية قوية! كما أن القول بكون سقوط جسمين من على برج، أحدهما ثقيل وثانيهما خفيف، سوف يصلان إلى الأرض في نفس اللحظة، لن يقبل به الناس العاديون، حتى ولو كانوا مثقفين، إن لم تكن لهم بالعلوم الفيزيائية صلة؛ بينما الواقع التجريبي داخل المختبرات العلمية، يعطينا براهين على أن ما بدا لنا بالعين المجردة مستحيلا، هو الواقع الذي حال دوننا ومعرفته تدخل الهواء لعرقلة سير الأجسام في اتجاه معين!
فعنوان مقالي هذا «كل الطرق الصوفية على غير المذاهب الفقهية» هو بالنسبة لي فرض، أجريت عليه اختبارات تلو أخرى منذ عهد بعيد، فكان أن تحققت من صحته، وإلا ما أدليت به، لإمكان تعرضي للمخاطر التي سوف تنجم عن محاصرتي بانتقادات شديدة من طرف الطرقيين قبل أية أطراف أخرى! خاصة وأن مدلوله في النهاية، هو الحكم بأنه لا وجود لأي طرقي تابع لأي مذهب فقهي على الإطلاق!
وهذا الحكم الذي أتوقع أن يلقى احتجاجات مستنكرين كثر من جهات عدة، لا بد لي من البرهنة على صحته، وحتى إذا ما انتهى إلى من يهمهم أمره، كان عليهم نقلا وعقلا تفنيده بأدلة قاطعة، وإلا فإنهم كما وصفت، غير ملتزمين باتباع أية مذاهب فقهية! وإليكم أدلتي على ما أدعيه:
-1 ما الأفضل في الدين: قول الرسول وفعله وتقريره؟ أم قول وفعل وتقرير غيره فيه؟
-2 ما الذي تعنيه الإجابة عن السؤال الأول بالنفي؟ وعن السؤال الثاني بالإيجاب؟
-3 أوَلَا نستخلص من الإجابتين كلتيهما ميل المجيبين الصريح إلى الاستهانة بالسنة النبوية من جهة، وإلى الدعوة المفضوحة إلى تجاوزها لتقديم مبتدعات في الدين غير مسموح بها عقلا ونقلا من جهة ثانية؟!
-4 هل أمرنا الله عز وجل باتباع الكتاب والسنة؟ أم إنه أمرنا بتشويه أو بتحريف ما ورد فيهما كمصدرين أساسيين للدين؟
-5 هل الأئمة الأربعة جميعهم، ملتزمون بما أمرنا به الله ورسوله؟ أم إنهم غير ملتزمين به؟
-6 وعلى افتراض أنهم غير ملتزمين به، فهل لنا أن ننتمي إلى مذاهبهم الدينية على العموم، وإلى مذاهبهم الفقهية على الخصوص؟
-7 هل يمكن أن ننسب إلى الأئمة الفضلاء بدعا معروفة لدى الطرقيين في مجالي المعتقدات والعبادات؟ أم إن العكس هو الصحيح؟
-8 هل نحن مقتدون بهم كما ندعي؟ أم إن ما ندعيه لا يعدو أن يكون مجرد أكذوبة، واقع التدين عندنا يفضحها ويفضحنا معه؟
وحتى نجيب على كل هذه الأسئلة المطروحة بوضوح تام، نسوق أولا بعض صفات أهل العلم، ثم نسوق ثانيا علاقة الأئمة الأربعة بكتاب الله وسنة مجتباه:
أولا: قال عبد الله بن مسعود: «ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم الخشية» أي التقوى والورع، بدليل قوله عز وجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.
وقال الترمذي في جامعه: «كان العلماء من السلف الصالح أهل نسك وعبادة وورع وزهادة. أرضوا الله تعالى بعلمهم، وصانوا العلم فصانهم، وتذرعوا من الأعمال الصالحة بما زانهم، ولم يشقهم الحرص على الدنيا وخدمة أهلها، بل أقبلوا على طاعة الله التي خلقوا لأجلها، فأولئك هم الذين عناهم الشافعي بقوله: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فما لله ولي».
وهل مشايخ الطرق الصوفية فقهاء حتى يكونوا لله أولياء؟!
وقال وهب بن منبه: «كان العلماء قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم. وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم (شراء الذمم والضمائر!)؛ فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم، رغبة في دنياهم (واقع علمائنا في عصرنا الماثل)، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم. (اللهم) فجنبنا طريقة قوم لم يقوموا بحق العلم! وأرادوا به الدنيا! وأعرضوا عما لهم به في الآخرة من الدرجة العليا! فلم يهنأوا بحلاوته، ولم يتمتعوا بنضارته، بل خلقت عندهم ديباجة ورثت حاله، وعرف مقداره جماعة من السادة فعظموه ووقروه واستغنوا به، ورأوه بعد المعرفة أفضل ما أعطي البشر، واحتقروا في حينه كل مفتخر وتلوا {فما آتاني الله خير مما آتاكم}. وكيف لا يكون الأمر كذلك والعلم حياة، والجهل موت، وما بينهما كما بين الحياة والموت؟».
ثانيا: قال مالك بن أنس: «إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقهما فاتركوه»! وقال كذلك: «كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر» يقصد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكان كثيرا ما يردد هذا البيت:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
وقال أبو حنيفة: «آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فيه، فبسنة رسول الله، وإن لم أجد في كتاب الله وسنة رسول الله، آخذ بقول أصحابه، ثم آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم؛ فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب -وعد رجالا من التابعين- فقوم اجتهدوا وأنا أجتهد كما اجتهدوا».
وقال الشافعي رحمه الله: «ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها جهدا، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه»، وقال: «من تبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقته، ومن غلط فتركها خالفته؛ صاحبي اللازم الذي لا أفارقه: الثابت عن رسول الله».
وقال أحمد بن حنبل: «لا تقلد في دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين، ثم إن الرجل بعد ذلك حر في الاختيار». ثم قال: «لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا»، وقال: «من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال».
وهذه نصوصهم رضي الله عنهم كما سمعتها أيها القارئ المهتم بالتحقق من واقع من يمارسون السنة ويدافعون عنها، ومن واقع من يمارسون المبتدعات ويروجون لها؛ وأقوال أئمة العلم -في النصوص المتقدمة للأئمة الأربعة- كثيرة جدا، على أنه معلوم من صفات العالم أنه لا يرتضي أن يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صحته أو حسنه قول نفسه ولا قول غيره! وإلا لم يكن عالما متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها إذن مواقف مشرفة بخصوص التعامل مع سنة رسول الله؛ إنها مواقف من كبار أئمة الفقه، وإن لم نقم سوى بذكر أربعة منهم مشهورين، إلا أنه يهمنا التركيز أكثر على عالم المدينة الذي تقتدي به الملايين في العالم الإسلامي، على حد زعم حكامه العلمانيين في الوقت الراهن! وعلى حد زعم السائرين في ركابهم من العلماء الرسميين! فقد كان مالك حقا مصباحا لم تستطع سياسة أولي الأمر إطفاءه، ولا كان ممن تؤثر فيهم الهدايا والهبات! فقد خاطب هارون الرشيد بقوله: «يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته واتباع سنته، وأن نرعاه حيا وميتا، وقد جعلك في هذا الموضع لعلمك (لكونك عالما)، فلا تكن أنت من وضع العلم (من ضَيّعه)، فيضعك الله… الله الله! لقد رأيت من ليس في حسبك ولا نسبك من الموالي وغيرهم، يعز هذا العلم ويجله ويوقر حملته، فأنت أحرى أن تجل علم ابن عمك» (ترتيب المدارك – 2/22 – من مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية!!).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *