يوميات مريض الحلقة الرابعة وفاء وعرفان.. حماد القباج

وقفنا في الحلقة الماضية مع ما ابتلي به نبي الله أيوب عليه السلام من محيط خاذل؛ تنكر له لما أصيب بداء الجذري.
ونخصص هذه الحلقة لذكر ما أكرمه الله به من صحبة وفية، ذاقت معه مرارة الصبر وتحملت بأس البلاء وشدته..
ولم يتجاوز عدد هذه الصحبة: ثلاثة أفراد!
قال عليه الصلاة والسلام في حديث اليوميات: “فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان”.
والظاهر أن الأخوة هنا؛ أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب.
ومعنى “يغدوان إليه ويروحان”؛ يزورانه في أول النهار وآخره، وهذا نافع للمريض؛ يخفف عنه ويعينه على نسيان آلامه لبعض الوقت.
الأنس بالله..
فالمؤانسة من أهم ما يواسى به المريض؛ وأعظمها وأجلها: الأنس بالله سبحانه، ويكفي المريض المحتسب شرفا؛ أن الله أكرمه بمعيته الخاصة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله تعالى: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟
فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟”
قال العلماء: “قوله: “لوجدتني عنده” لفظ ظرف، وهو هنا يفيد ما تفيده المعية الخاصة من الإحاطة والرعاية”.
فمعية الله تعالى لعباده نوعان:
معية عامة: تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهمم؛ قال سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}.
ومعية خاصة: تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية (ص 103): “ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد؛ فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}.
دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، وكذلك قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد”اهـ.
إن أوفر المرضى حظا وكرامة؛ من ذاق طعم الأنس بالله، بما فيه من لهج بذكره واطمئنان بالرضا عن قضائه وقدره..
وهكذا كان حال نبي الله أيوب عليه السلام؛ قال الحافظ ابن كثير: “ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك كله صابر محتسب، ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه”اهـ. [قصص الأنبياء (1 / 362)].
ومن كان هذا حاله؛ لم تضره قلة الزائرين والمواسين.
نقل ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/92)؛ عن أبي أسامة قال: “قلت لمحمد بن النضر: كأنك تكره أن تزار؟ فقال: أجل.
قلت: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟”.
وعن عيسى بن إسحاق الأنصاري قال: سمعت مؤمنة بنت بهلول تقول: “ما النعيم إلا في الأنس بالله والموافقة لتدبيره”. [صفة الصفوة (1 / 578)].
وقال أحد العباد: “إن الأنس بالله عز وجل قطع عني كل وحشة” [صفة الصفوة (2 / 509)].
ومن أفضل الأنس؛ الأنس بالصالحين الذين يُذّكرون بالله تعالى وطاعته وما أعد للصابرين، ومنهم صاحبا أيوب جزاهما الله خيرا..

زوجة المبتلى ودرس الوفاء..
زوجة أيوب هي أول الثلاثة الذين رافقوا أيوب في محنته.
وقد تقدم أنها من أحفاد يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
وأن اسمها: “ليا” على الأشهر، وقيل: “رحمة”.
قال الحافظ ابن كثير: “لم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته؛ كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها.
فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته.
وضعف حالها وقلّ مالها؛ حتى كانت تخدم الناس بالأجر، لتطعمه وتقوم بأوده، رضي الله عنها وأرضاها.
وهى صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد وخدمة الناس، بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة” اهـ [قصص الأنبياء (1 / 362)].
وقال في التفسير (7/74): “يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله؛ فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة”.
قال: “ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها؛ فإنها كانت لا تفارقه صباحا ولا مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبا”اهـ.
قلت: جزاها الله من زوجة بارة وفية خيرا.
وحسبها كرامة؛ أن الله تعالى أنزل فيها قرآنا يبين للبشرية منزلتها عند الله؛ قال سبحانه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44].
“وذلك أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته؛ قيل: إنها باعت ضفيرتها بخبز 1فأطعمته إياه؛ فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة، وقيل: لغير ذلك من الأسباب .
فلما شفاه الله وعافاه؛ ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب؛ فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثا -وهو: الشمراخ- فيه مائة قضيب، فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره.
وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]”. [تفسير القرآن العظيم (7 / 76)].

رسالة إلى الأمهات والزوجات
إن في حال زوجة أيوب مع زوجها أسوة حسنة لكل من ابتليت في زوجها، ومثلها من ابتليت في ولدها أو من ترعاه؛ ولا يسعني في هذا الموطن إلا أن أتوجه إلى أولئك الأمهات والزوجات الصابرات المحتسبات بكل عبارات التقدير والتحية..
ولقد رأيت في المشفى أمهات يصطحبن أولادهن المرضى طلبا للعلاج والتداوي، وبعضهن يحملن الولد بذراعين ضعيفتين مرتعشتين، اجتمع عليهما ثقل ما تحمل وثقل الفقر والفاقة.. وبعضهن يقطعن مسافات كبيرة متنقلات بين أنواع من النقل العمومي، كثيرا ما يكون مفتقدا لشروط الراحة بسبب كثرة المستعملين، أو لأسباب أخرى.
وأعرف زوجات لزم أزواجهن المستشفى لشهور، لم تتخلف الواحدة منهن عن زيارة زوجها إلا نادرا؛ تزوره وتواسيه وتصلح من شأنه وتغسل ثوبه وتهيئ له ما اشتهى من طعام.. إلـخ.
وفي المقابل -مع الأسف- أمهات وزوجات تخلين عن أولادهن وأزواجهن.
حدثني أحد الأطباء أنه عالج مريضا كانت له أم غير راضية بما حل بولدها، وكانت كثيرة التسخط والشكوى، وكان كلما دخل بيتهم لعلاج الولد؛ وجده في حال سيئة؛ لا يجد من يقدم له خدمات ضرورية..
قال الطبيب المذكور: فكنت أطلب منها العناية به ورحمته والشفقة عليه، فتجيبني: إلى متى؟ أنا أريد أن أعيش حياتي؟!
فما لبث أن توفي ذلك الطفل..
إن ابتلاء ذوي المريض قد لا يقل شدة عن ابتلاء المريض نفسه، ومنزلته منهم قد تجعلهم مطالبين بما يطالب به المريض من الصبر والرضا؛ وقد تقدم قوله عليه السلام: “إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ”. [رواه الترمذي وَقالَ: “حديث حسن].
فالله الله في مريضك أيتها الأم.. أيتها الزوجة.. والله لا يضيع أجر المحسنين..
—————————–
1 – يغلب على ظني أن سبب غضب أيوب على زوجته؛ هو أنها جزعت وضاقت ذرعا بطول أمد الابتلاء الذي حل بهم، والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *