كان وحيد أبويه، لا لأن أبويه تقصر يداهما على إنجاب طفل يؤنسه، بل لحاجة في نفس يعقوب قضاها؛ فالفكرة البورجوازية تضمن إضفاء السعادة على الحياة بطفل أو اثنين.
فريد يتمتع بكل ما تحلم به نفسه، مدلع الجانب، سمين الخلقة، ناعم الشعر أشقره، مدلل التربية، مكسر الكلام والمشية، يلبس من الثياب أفخرها، ويأكل من الأطعمة أزكاها، ويدرس في أغلى المدارس الخاصة، وهي جنته اليومية التي يقضي فيها غالب ساعاته.
أما المنزل فوحدته فيه تخنق حياته خنقا تجعله دائم العصبية، وصراخه العديم الصدى يُحسه بالوحشة، فتضيع نكهة الحياة لديه، على الرغم من كون أمه قد جعلت رفقته (روكي) كليبته الصغيرة الكثيفة الشعر، وكون المنزل مزودا بأماكن ألعاب الأطفال التي تميل إليها أنفسهم، لكن فريدا لا يجد مذاقها دون مشارك.
وبالعكس تماما في مدرسته، لا يكاد يحس بأدنى ملل، يصرخ كأترابه، يمازح بعضهم بعضا، يلعبون كما يشاؤون ويمرحون، وتقبيلات صديقاته ألذ عنده من قطع الشكولاطة التي تقتنيها له عمته من إيطاليا حين قدومها، ومداعبة أستاذاته تدغدغ عاطفته وهو الطفل الذي يغازل سنه سن البلوغ.
في البيت خادمة تكبر فريدا بقليل، قد اقتربت من سن اليفع، تنحدر من عائلة جبلية معوزة من أحواز المدينة، هي قرة عين أبيها بعد وفاة أختها، لكن يد الفقر المفترس ساوم أباها في اختطافها من بين يديه، فافتقدها على كره منه، ولا تزال مخالب هذا الوحش تمتد إلى الشرف فتسيل دمه، وإلى العرض فتشوهه، وإلى الرحم فتجهز على أبنائه، وتقطع أوداجه، وتلك شنشنة نعرفها من أخزم. ما كان أبوها ليجود بها لولا إغراء السماسرة الذين لا يهمهم إلا تلبية نداء النهم في نفوسهم، ليلقي بالورود في بداية تفتحها، وحين انفلاقها، بين أحضان الخدمة والاستبداد أحيانا، وأحضان العبث أحايين أخرى.
تبدو “خدّوج” بملامحها الجميلة الأصيلة، كتحفة نفيسة مطروحة ضمن اللُّقى؛ غير أن هيئتها تنم عن حالها المكلوم. تقوم خدوج على صغر سنها بكل أعباء البيت، ريثما تدخل ربة البيت وقد أعدت محضرا مطولا ومرهقا لخدوج، وتفرغ عليها كل ضغوط عملها، وتمارس عليها ما تمليه عليها ساديتها لتحقيق سيادتها.
أما الزوج الذي يشغل منصبا هاما في إحدى الوزارات، إلى جانب عدة مهام أخرى والتي منها نائب رئيس الجمعية العامة لحقوق الإنسان، فإنه يصرّف تعب يومه وتوتره الناتج عن كثافة اهتماماته وتراكمها قذعا وشتما للخادمة، ويجعل من الحبة قبة كما يقال. ولطالما خاطب خدوجا ونظر إليها ومسها، وما خطابه إياها إلا أمرا أو نهيا أو سبا، وهل ينظر إليها إلا شزرا، ومتى تتشرف هي بلمسة يده إلا حين تمتد إليها بالضرب والتأديب.
أما وصول الابن المدلع إلى البيت؛ فهو وإن كان بدوره يحمل واجبات مختلفة تجاه خدوج، فإنه يملأ فراغها العاطفي، تلك العاطفة العطشى التي ترتوي بفتات نظرات فريد، أو ندائه إياها لتقوم بمهمة، وهي معجبة به لأنه يذكّرها بأخيها المفقود الذي هو في مثل سن فريد، والذي قضت معه خدوج فترة قصيرة من الطفولة المبتورة. قصة ألم هي ذكرى محند؛ أخيها الذي غادر مقعد الدراسة تحت مطرقة الأستاذ وسندان الأب.
فقد قرر الأب إرساله إلى المدينة ليشتغل، فكان يأبى ذلك ويتشبث بمتابعة دراسته رغم أن صعوبة الأعمال الموازية للدراسة من رعي وسقي وحطب تنغص عليه حياته. لكنه خنع في الأخير لرغبة الوالد بعد صفعة المعلم، إثر اعتذاره عن أداء جباية الأسبوع، ومن أين لمحند أن يأتي باللبن أو الدجاج أو البيض وإنما كان أبوه راعيا لمواشي القبيلة، ويقوت أسرته بأوساخ جيوب الناس.
فعزم امحند على الانصراف للاشتغال في المدينة، لكنه خطط لنفسه مخططا آخر، يهدف إلى الفرار من ضغوط المجتمع الضيق، إلى ضغطه الواسع في المدينة، كالمستجير من الرمضاء بالنار، فانتهى به المطاف إلى محطة البيضاء الكبرى، حاملا كيسه الذي يستنشق منه رائحة “الديليا”، ليرسم حياته المثالية كما اشتهاها دون أن يشاركه فيها أحد.
ينسى الأبوان ابنيهما وهما يتحدثان عن مشاريعهما، عن أشغال يومهما، عن أحداثه، عن الأصدقاء والصديقات، بينما يتحول فريد بين الدول والثقافات بضغطة زر باحثا عن فيلم يسد رمق أحاسيسه. إلى أن تشير الساعة إلى السابعة فتأخذ منه الأم جهاز التحكم، لتعيش وزوجها أحداث فيلم رومنسي مهيج، في الوقت الذي يحمل فيه فريد كتابه ويسرق نظراته المتغافلة إلى الشاشة كلما أحس بسخونة الموقف. وتراقب الخادمة من إحدى أركان البيت المنظر فتغرق في أحلام حياة مثالية، لا ينغصها إلا ترقب أمر أحد السادة الثلاثة.
تقفل الأبواب؛ فيغرق الزوجان في نومهما، ويسامر فريد حاسوبه المزود بالأنترنت، ويخلو الأسى بخدوج ولحظات حياتها القصيرة المريرة تمر بين عينيها لحظة لحظة.. إلى أن تنتهي بأعظم حلم لديها. تُرى ما الحلم الذي يقض مضجع خدوج؟ أهو أن تتزوج وتحيا حياتها مع زوجها؟! وكيف تكون هذه أمنيتها وقد علمت وهي صغيرة أن أختها الكبرى زُفت مكرهة إلى شيخ القبيلة الذي بلغ من الكبر عتيا، ففرّت منه إلى أبيها الذي ما تردد في ضربها أمام نظرات القبيلة وإلقائها خارج البيت، فرجعت إلى زوجها مهزومة تحت سخريته واستهزائه، مخفية في ضميرها ما تخفي، فما هي إلا أن أسبل الظلام سدوله على القبيلة، ونبح الكلاب إيذانا بالنهاية الحزينة، وعوى الذئاب على جور الإنسان وظلمه وقساوته، كان الخاطب الجديد الذي ستعانقه هذه الليلة في انتظارها، تحت صمت الظلام، كان مزينا يبدو في ملامحه ضياء القمر، وكأنه عاشق ينتظر موعد اللقاء، فما هي إلا ساعات أوليات من تلك الليلة المقمرة حتى انتشر الخبر المشؤوم حليمة أوقعت نفسها في البئر.
تلك هي أمنية خدوج والحل الوحيد من مأزقها؛ غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، ففي وقت من أوقات فراغ فريد؛ حين كان والداه مدعوان إلى عشاء خارج البيت؛ أضرمت المواقع الإباحية التي يدمن عليها نار شهوته فلم يجد أمامه إلى الفتاة المهزومة؛ فنشب فيها أظفاره، وقضى على شرفها، وقد كان أبوه يراودها مرة تلو أخرى؛ وكأنه ينتظر وقتا مناسبا للافتراس. ثم ظل الصمت يخيط شفتيها؛ إلى أن هربت نحو وجهة مجهولة.