لقد كتب الأستاذ عبد الوهاب بن منصور بعد عامين من استقلال المغرب، قائلا :
“الطبقة العلمية في المغرب هي من دون شك في طليعة الطبقات الشعبية التي تدعى إلى بناء صرح الوحدة وتدعيم أركان الاستقلال وخلق المغرب الجديد المرجو له كل فضيلة وكمال، فليس معقولا أن تدعى طبقات العسكريين والاقتصاديين والسياسيين لميدان العمل وتبقى هي كما مهملا، قاعدة من القواعد، متخلفة مع الخوالف، فوضعيتها تحتم عليها أن تسير في مقدمة القافلة تضرب للناس أروع المثلات في التضحية والصبر والإيثار، لتكون محل الاقتداء، ومكان التأسي والاتباع.
ومن الخطل والخطر أن نسمح برواج الفكرة التي استقرت في أذهان الأوروبيين ومقلديهم من المشارقة منذ انتصار الثورة الفرنسية واتصال الغرب بالشرق، تلك الفكرة التي تدعو إلى انسحاب علماء الدين من الحياة العامة وانعكافهم في الأديرة والصوامع والانصراف إلى ممارسة العبادة التي وقفوا حياتهم عليها.
إن هذه الفكرة تتنافى مع الإسلام الذي لا رهبانية فيه، وفيها تعطيل لجزء حيوي من جهاز النشاط والتفكير الشعبي، فالواجب الديني والوطني يحتم أن يبقى العلماء على اتصال بشؤون مجتمعهم ومحيطهم، وأن لا يفروا من المسؤوليات التي يفرض حملها عليهم النفقة في الدين والعلم بحقائق الشريعة والاطلاع على نواميس الطبيعة، فإن الفرار منها مما يجلب لهم النقمة ويضاعف لهم العذاب، { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.
ومعلوم أن تشعب الأعمال وكثرتها يقتضيان إرجاع كل فن إلى ذوي المعرفة وأرباب الاختصاص، فكما أن المهندس الفلاحي سوف لا يدعى إلى معالجة المرضى، كذلك علماء الدين سوف يدعون إلى مباشرة الأعمال التي يبرعون فيها، وولوج الميادين التي يصعب على غيرهم الصولان فيها والجولان.
فهناك الميدان الديني الذي يجلون فيه محاسن الإسلام وفضائله، ويقضون على البدع والضلالات التي لصقت به أثناء عصور الانحطاط وشانته، حتى عاقت أهله عن النمو ومنعتهم من التطور، وسيكون على العلماء في هذا الميدان أن يدرسوا القوة الكامنة وراء هذا الدين الحنيف، تلك القوة التي فتقت أذهان البداة الأعراب نورا وحكمة وجعلتهم ينطلقون في سرعة عجيبة من جزيرتهم القاحلة إلى جهات كثيرة يشيدون صرح مدنية رائعة مازالت أنوارها تبهر الناظرين، وآياتها تقطع ألسنة الجاحدين، فهذه القوة نحن في حاجة إلى معرفتها والتطلع إليها حتى نستطيع أن نخلق المغرب العظيم.
وهناك الميدان الأدبي، وهو مجال واسع لهم، لأنه متعدد المناحي كثير الشعب، وفي هذا الميدان يمكنهم أن يرفعوا الحجب عن المدنية العربية بما يظهرون من آثارها ويكتبون من الدراسات عنها، كما يمكنهم أن يطلعوا المغاربة على ثرائهم الفكري الذي عبثت به الأيام ووزعته شذر مذر، حتى فُقد، وأصبحنا عرضة للنقد من طرف أعدائنا، موصومين لديهم بعقر الفكر، ويبس القريحة وجفاف الإدراك.
وهناك الميدان التربوي الذي يهذبون فيه الأمة ويربون فيها ملكات الخير والإحسان والتعاون، والأخذ بالأسباب الطبيعية للأشياء، ويكرهون إليها التواكل والتخاذل والتعلق بحبال الخيالات وأسباب الأوهام”اهـ.
ويؤسفنا أن نقول بأن هذا الرجاء لم يجد طريقه إلى الواقع المغربي؛ بل تمكن المفسدون الذين زرعهم المستعمر في جسد الدولة من أن يقصوا العلماء، ويحرموا المغرب من مقومات النهضة العلمية والتربوية التي كانت كفيلة ببناء مغرب يسود فيه الصلاح والعدل والفضيلة.
لقد ران واقع الفساد على بلادنا كغيرها من الدول الإسلامية، وقد هبت نسائم التغيير، وبدا في الأفق أن هناك إرادة ملكية لإصلاح الفساد وتحريك الماء الراكد، وزادها إلحاحا تحرك الشعب ومطالبته بالضرب على أيدي المفسدين..
فهل سيستغل العلماء الفرصة؟
وهل سيحاولون تدارك ما فات، واسترجاع مكانتهم في قيادة سفينة الإصلاح وترشيد مشاريع التنمية؟
إن بلدنا يهتز تحت وطأة قدم التغيير، وإن الشباب التواق للإصلاح ينتفض للمطالبة بالتغيير، وإن أيادي المؤامرة تعبث بالعقول، وتسعى سعيا حثيثا لاستغلال موجة التغيير لصالحها، وتوجيه رياح الثورة لتلقح سحبها كي تمطر البشرية بالدمار والخراب.
وإن هذا الحراك العظيم لا ينبغي أبدا أن يكون بمعزل عن توجيهات العلماء، ولا بمنأى عن تسديدهم وإرشادهم:
الشباب الثائر في حاجة إلى توجيههم، والسياسي الحائر في حاجة إلى إرشادهم، والفاسد الجائر في حاجة إلى إصلاحهم، والملحد الخاسر في حاجة إلى إنقاذهم.
إن الفكر العلماني المتغول بسط أطرافه الأخطبوطية على عقول أكثر السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، الذين لم يجدوا من يعرض لهم هذا الدين بجماله وجلاله، ورحمته وعدالته، وسموه وشموليته، كما عرض الغرب علمانيته، وكما عرضت المذاهب المادية إلحادها؛ حتى صارت محط إعجاب وانبهار، ونسي الكثيرون أن لهم دينا وشريعة تشفي وتكفي..
شريعة تقطع دابر الفساد بكل أنواعه؛ الأخلاقي والسياسي والمالي..
شريعة تقيم الإصلاح على أسس راسخة ومتينة، لا نحتاج معها لنظم أخرى؛ كثيرا ما تكون مطية للانتهازيين و(البراغماتيين)..
ومع هذا؛ الدين والشريعة مهجوران: لا نسمع لهما ذكرا عند الأحزاب السياسية، ولا نسمع لهما حسا في التجمعات الشبابية، ولا نسمع لهما همسا في النضالات الحقوقية والتصريحات الصحافية..!
فهل عجز العلماء عن تأطير الشباب وترشيدهم وإقناعهم بالحجة والبرهان؛ فتركوهم ضحية سهلة لمتغولي الإلحاد والعلمانية؟
وهل عجزوا عن إفهام الشباب والسياسيين بأن شريعتهم قمينة بقيادة سفينة التغيير والوصول بها إلى بر الصلاح والعدل والخير والرحمة؟
إن الظرفية لم تعد تسمح بالمشي على استحياء، ولا بالاقتصار على الدعاء، ولا بكثرة الجدال والمراء، ولكنه وقت الصدع بالحق، والجهر بدعوة الخلق؛ بكلمة جهورية، ومواقف مفصلية، ونزول قوي إلى الإعلام، وحضور مكثف في منتديات الحوار والنقاش؛ لرفع راية الدين خافقة لتكون منار هدى للحائر، وحجة إقناع للجائر:
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة/251].
أخرجوا ما عندكم أيها السادة العلماء، في شجاعة الهصور، ونشاط الغيور، وعزة تملأ الصدور، أرشدوا الموالف وناقشوا المخالف، وادعوا إلى رد الاعتبار للشريعة في الإعلام والقانون وكل المجالات..
تقدموا إلى الشعب المغربي عبر الصحف الوطنية، وما أكثرها.
تقدموا إلى الشعب المغربي عبر قنواته الوطنية، واطلبوا الكلمة في منتديات الحوار.
تقدموا إلى الشعب المغربي عبر الندوات والمحاضرات المكثفة.
تقدموا إلى الشعب المغربي عبر التلفزات التي ملأ بها وزير الأوقاف المساجد!
تقدموا إلى الشعب المغربي عبر الخطب الجادة الواقعية التي تؤصل للمفاهيم الصحيحة، وتلامس هموم المواطن اليومية.
ناقشوا الأفكار واكشفوا الشبهات ودافعوا عن الثوابت التي يستهدفها من يريد الركوب على المظالم السياسية والاجتماعية لهدمها.
دافعوا عنها أمام هؤلاء، وأمام من يريد أن تبقى ألفاظا دون معان، ورسوما دون تطبيق، لحساب ما يناقضها من المواثيق الدولية..
أيها السادة العلماء؛ لقد كان الملك محمد السادس وفقه الله وفيا لمقتضيات بيعته؛ حين أكد بأن الإسلام من ثوابت الدستور؛ إلا أن جهات تعمل -بشكل غير مباشر- على تفريغ هذا المعطى من معناه وحقيقته ومستلزماته، في الوقت الذي تجهر جهات أخرى برفضها لهذا الثابت، وأنهم لا يرضون بالإسلام حكما، وإنما يريدون أن يتحاكموا إلى المواثيق الدولية.
والجميع يشترك في مقصد إبقاء الشريعة الإسلامية بعيدة عن تأطير الحياة العامة والمشهد السياسي، وتفادي جعلها مصدرا للقوانين..
وهو ما كان يعد إلى عهد قريب؛ مطلبا استعماريا انتفض ضده المغاربة ملكا وشعبا.
فهل نجح المستعمر في قلب الحقائق؟
وهل استطاع أن يروض ويدجن أحفاد الوطنيين الأحرار؟
وهل تمكن من تغيير المفاهيم وقتل الولاء لله ولدينه في القلوب؟
وأين هو دور العلماء في مواجهة هذا الكيد الخطير؟
كيف يعقل أن يخلي العلماء هذه الساحة التي يستهدف فيها الإسلام؟
ويشغلون أنفسهم بحرب إقصائية ضد من يرفض نمطا معينا من التدين؟!
إن للشريعة كلمتها في كل مجالات الإصلاح: الأخلاقي والفكري والسياسي والقانوني والاقتصادي، وإن لها دورها في مغرب العدالة والحق والقانون، ولا يحق لأحد أن يفرض على المغاربة علمانية (فولتير أو ديدرو أو مونتسكيو أو روسو)، أو إلحاد (لينين أو ستالين)، ويزعم بأنه مشكاة التنوير والتطوير، وأن غيره ظلامية وتطرف..
لقد ولى زمان هذا الفكر الإقصائي الاحتقاري مع (بن علي) ورفاقه، وبدأنا نخرج من منطق: (البقاء للأقوى) إلى منطق (البقاء للأصلح)، والأصلح هو ما جاءت به الشريعة..
لكن من يبين ذلك؟
من يقنع به بالحجة والدليل؟
من يرد الاعتبار إلى هذه الشريعة في مجالي (التقنين) و(الدسترة)..
إنهم العلماء..