مأساة المغرب (ثورة الملك والشعب) 2/2 إدريس كرم

 

تقديم للمقدمة:

يقول مؤلف كتاب “le drame du maroc” بول بيتين نقيب المحامين الفرنسيين بمكناس سنة 1954 في ثنايا كتابه:

..الحقيقة صحيحة: لقد كانوا أصدقاء مخلصين لفرنسا، لكنهم كانوا أعداء للسياسة الفرنسية غير قابلين للاختزال، للأسف! وهو ما تواصل اتباعه فيهذا البلد لعدة سنوات من قبل منتدبيه العظام المعينين من قبل الذين لا يمتلكون فكرا يحيط بما يجري هنا من الأحداث حتى ولو بشكل بسيط.

في أقل الأحداث التي تكون بسيطة بالرغم من صعوبتها فلن تكون عصية عن الفهم عند طرحها في شموليتها لا في عمقها.

الشمولية أولا، لأننا لا نعلم شيئا قبل ولادة مأساة من تواجد حضارتين مختلفتين للغاية بل أحيانا متعارضتين معارضة غير قابلة للاختزال حول نقاط معينة، وعلى كل حال فإن الوقت وحده كفيل بتخفيف تصادمها الاستعمار والعنصرية والرأسمالية موجودة بلا شك في المغرب وهي بصفة عامة ما سنجعلها كبش فداء للاشتباكات التي سنعرفها، تفسير سهل ومبسط، لأن الدراما أخطر بكثير من تلك التي تسببها الحقائق المخفية وراء هذه الأسماء في “اسم” نسيء له كثيرا.

الدراما الحقيقية في عمقها ناتجة عن تلامس واحتكاك، فصراع بين حضارتين ولدت إحداهما في حدائق تورين، والأخرى في رمال الصحراء، واحدة تحت ظلال فرنسية ناعمة وأخرى تحت سماء حارقة ورمال عنيدة، حضارة مستقرين وحضارة رحل.

ولمعرفة وتحديد مدى هذه المأساة يجب أولا أن نتوفر على الإرادة في بذل الجهد اللازم، ونادرون من لديهم هذه الإرادة، إذ من الضروري بعد ذلك معرفة الحضارتين ثم مقارنتهما ببعضهما البعض لتبين نقاط الاتصال والتعارض إن كانا موجودتين لمعرفة الوسائل التي يمكن بها إعادة استيعاب كل محددات الاحتكاك والصراع لحله أو التخفيف من آثاره.

من الواضح أن هذا الجهد صعب في استعراضه، وهو أصعب في واقع تحققه والتعامل معه يقتضي التعاون والتكاثف والتفاهم.

من أجل ذلك تم السعي في الدار البيضاء التي يبلغ عدد سكانها 75000 فرنسي بتوزيع نشرات وإقامة دورات تكوينية في علم الاجتماع الإسلامي، حضرها في السنوات الأخيرة أربعة أو خمسة أشخاص، بالمقابل قام المسيحيون الذين تم تنبيههم لتدارك الموقف بعد وقوع المأساة بتعبئة الفرنسيين لحضور دروس كنسية بكثافة، لكن الحاضرون لم يكونوا شبابا ولم يتجاوز عددهم العشرين.

لحل هذه الدراما نحن راضون عن استحضار (العظمة الفرنسية) و(مصلحة فرنسا) و(الصداقة الفرنسية المغربية) و(الاعتراف بأن المغاربة مدينون لنا بالمزايا التي قدمناها لهم) أو حتى (الحاجة لتقوية أواصر المحبة) نستمر في هذه الصيغ الفارغة المنفصلة عن الواقع المنافية لما نريد إعطاءه.

لا أعرف ما هي القوى السحرية والمذهلة التي تلاقينا بهذا الفشل.

عمق الدراما: ربما يكون هذا الجانب الأكثر تهربا من معاصرينا، يشهد العالم الإسلامي بأسره تغيرا سريعا مع عواقب غير متوقعة، في اتصاله مع الغرب الذي لعب دور المحفز لقد استيقظ من خمول ربما كان متخيلا أكثر منه حقيقيا، انفتح فجأة على الحس النقدي، يراجع كل مفاهيمه، كل شيء اعترف به لقرون دون مناقشة صار يدقق في أحكامه ومسلماته.

المغرب أحد آخر البلاد الإسلامية المتصلة بالغرب، لكن وقعت بها تطورات فجائية مقلقة وهو ادعاء فرنسي لتحقيق شهرة المساهمة في تطوير بلد مسلم، هو ادعاء لا يمكن لأحد أن ينتقص منه، لقد ذهب هذا التطور إلى حد أن المرء يتساءل إلى أين سينتهي؟

يتخرج العديد من طلاب القرويين إحدى أشهر كليات اللاهوت في العالم الإسلامي، وعندما يلتحقون بمراكز عملهم، يواجهون سؤالا محفوفا بالمحاذير حول مكانة المرأة ومساواتها بالرجل لأغراض الزواج، البعض يرفض تعاليم القرآن في الموضوع، أخرون يدعون أنهم مؤمنون لكن لا يتفقون مع الجاري في الموضوع، ماديون ماركسيون لهم رأي مغاير، لكن المرأة المغربية نفسها تطور نفسها بنفسها بسرعة كبيرة لدرجة أن المراقبين الأكثر معرفة، بالكاد يتمكنون َمن متابعة مراحل تطورها، فجأة تركت (الحجبة) لتلقي بنفسها بحماس في النضال السياسي ومطالب الشارع.

القوميون والنقابيون المعتقلون في دجنبر 1952 والمفرج عنهم في غشت 1954 لم يقدروا على التعرف على زوجاتهم بسهولة فقد تغيرن بعد غيابهم بشكل كبير حيث اكتسبن نضجا ذهنيا معرفيا متقدما.

لم يكن تطورا بل ثورة أكثر عمقا وأثقل عواقب في تاريخ الشرق الأوسط، لقد تمت مراجعة جميع المفاهيم، وأصبحت جميع العقول متحفزة نحو المستقبل الذي يشعرون به، لكنهم لا يعرفون عن مآلاته شيئا فهو ليس تطورا طبيعيا، بل قفزة من وضع معروف لوضع مجهول، لقد حاولت في الصفحات التالية تقديم السمات الأساسية للمغرب القديم ، أن أصف بعض جوانب التطور الجاري، إنه اختبار يمكن أن يكون مجرد محاكمة، أنا لا أنسى أنني أعيش في المغرب منذ 34 عاما مثل أبناء وطني، ومثل الشهود المسلمين، الممثل والضحية للمأساة بكل الهموم التي يفرضها هذا الشرط أود من القارئ الذي سيوافق على متابعتي حتى النهاية أن يستخلص استنتاجا واحدا فقط من قراءته وهي الحاجة لمراجعة جميع مواقفنا كل سياستنا تجاه مفاهيم مواجهة المغرب وربما تجاه افريقيا الشمالية وضمنها الجزائر لأنها لن تبقى بعيدة عن التطور الذي تتبعه باهتمام.

عشية الأحداث التي وقعت بالأوراس في نهاية 1954 يمكن ان تكون مجرد استنتاج تستوجب حاجة ملحة لمراجعة سياستنا الإسلامية بأكملها من أعلى لأسفل تماما كما يراجع المسلمون أنفسهم جميع قيمهم السابقة.

بالتأكيد لا يزال لذينا صفحة جميلة نكتبها في شمال إفريقيا بشرط أن نقلب صفحة الأمس لنعرف من اليوم كيف نكتب صفحة الغد.

هل سنعرف؟

الأحداث التي شهدنا نهايتها عام 1954 الروح الثابتة لمعظم الإدارة على جميع المستويات الخوف من تبني الحلول الجديدة الجريئة الضرورية، تجعلني متشائما.

مكناس نونبر 1954″.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *