إن العاقل اللبيب لا يخفى عليه -ونحن في زمن لم يعد يخفى فيه شيء- المكر الكبير الذي يقوم به المعسكر العلماني المؤطر من قبل جنرالات الإلحاد والزندقة الماسونية، والمدجج بأفتك الأسلحة التي لا تقاوم، ألا وهو سلاح الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع، ذلك المكر الذي أضحت جحافل العلمانيين لا تخجل من التصريح به أمام الملأ بعد أن خَلا لها الجو وكممت أفواه الدعاة والعلماء والمنصفين.
أمسوا لا يخجلون من المطالبة بالشذوذ والسحاق والإفطار العلني في رمضان وغير ذلك من زندقتهم وفجورهم، على مرآى ومسمع من المسلمين المسالمين الذين لا يزالون يحبون دينهم ويغارون عليه، يفعلون ذلك وهم متسترون وراء المنظمات العالمية لحماية حقوق الإنسان..
لكن أخطر ما يلبسون به على القارئ المسلم الذي أصبح راغبا عن القراءة الجادة والاطلاع على المعلوم من الدين بالضرورة إلا من رحم الله، هو تحريفهم للمصطلحات ومعانيها وإدخال مصطلح في آخر دون أن يشعر القارئ المسكين، ليستميلوه إلى صفهم وليحرضوه على المخالفين لهم في تصوراتهم الإلحادية، وأقصد هنا المتدينين الذين اتخذهم تلامذة المستشرقين بعبعا يرعبون به المواطنين.
من ذلك خلطهم بين مصطلحي (الحداثة والتحديث)، فحينما يكتبون في صحفهم مثلا:
نريد أن يصبح المغرب بلدا حداثيا بامتياز، أو غير ذلك من العبارات المكرورة التي يحفظها الأول للآخر، ويعلمها المستشرق للمستغرب دون ملل ولا سآمة، حين يقولون: المغرب بلد حداثي، فإن غير المطََلع -وهم النسبة الكبيرة من المواطنين- يوافقهم تماما ويقف في صفهم، ظنا منه أن الحداثة هي التكنولوجيا بمختلف أنواعها، ويقولون في الآن نفسه: “إن السلفيين الوهابين ضد الحداثة والتقدم، يقفون في طريق حداثة مغربية تلمع صورة البلاد في أعين الأمم المتحضرة” وهنا مكمن الخطر، إذ إن المواطن المسلم يستنتج -بناء على ذلك- أن من يقف في وجه تطور البلاد اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا هو الخطر الذي يجب صده ومنعه من الانتشار وامتلاك قلوب الناس.
على هذا الوتر يضربون ويستغفلون عباد الله المسلمين الذين لا يشعرون، وحقيقة الحال أن التحديث ليس هو الحداثة بأي وجه من الوجوه، التحديث شيء لا يناقش، بل هو على رأس المطالب التي يتفق عليها جميع الشعوب، وهو من الحلال الذي شرعه الله تعالى ودعا عباده إلى الإبداع فيه لخدمة الإنسانية، ذلك أن الله تعالى علم الأنبياء حرفا دنيوية لاءمت الزمن الذي كانوا فيه لمن يقرأ كتاب الله ويتدبره، والمسلمون الأوائل الذين تمسكوا بدينهم وطبقوه على أرض الواقع وبلغوه مشارق الأرض ومغاربها، قد طوروا الرياضيات والفلك والطب وغيرها من العلوم الطبيعية بشهادة الغربيين المنصفين، ومن يطالع كتاب المفكرة الألمانية (زيغريد هونكه) الذي عنونته بـ”شمس العرب تسطع على الغرب” يجد ما يلجم فمه ويشل يده (أقصد هنا العلمانيين الحاقدين).
ولغباء كثير من الغوغاء الذين اتبعوا أصوات الناعقين العلمانيين يقولون للمتدينين: “لا تركبوا السيارة ولا تستعملوا الهواتف والأنترنت وغير ذلك من آلات التكنولوجيا فهي بدعة وحداثة، وأنتم ضد الحداثة والجديد”!!
وهو كلام بلغ من الجهل والحمق والطيش مبلغا عظيما، وقائل مثل هذا الكلام الغبي لا يخرج عن شيئين اثنين: الأول: الاستهزاء بالمتدينين والضحك منهم، والثاني: الجهل المركب الذي لا يعلم صاحبه أنه جاهل، والثانية أهون من الأولى للعاقل الفطن.
أما الحداثة -وهي موطن الصراع مع الحداثيين وليس التحديثيين- فهي مذهب فكري غربي ثقافي نشأ في بيئة إلحادية مادية تمردت على الغيبيات بل على الخالق، ظهرت في ظروف يعلمها كل من اطلع على الصراع بين الكنيسة المحرفة لشريعة الله الحقة مع العلم.
وهي مذهب غربي لا يمت بأي صلة إلى ثقافتنا الإسلامية التي لها فكرها القائم بنفسه، فكر متنور رباني صمد في وجه الأعداء الصهيوصليبيين منذ خمسة عشر قرنا، ومازال صامدا في وجه المكر والكيد الداخليين والخارجيين، وسيصمد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول الدكتور عبد العزيز حمودة : “لكن كون التحديث قدرا شيء، وتحول ذلك التحديث إلى حداثة غربية شيء آخر… لكننا بالقطع نرفض الارتماء في أحضان الحداثة الغربية في تجاهل شبه كامل لورطتها ومأزقها من ناحية، ولخصوصية الثقافة العربية من ناحية أخرى” .
وليعلم الحداثيون الذين لا همَّ لهم إلا نشر الرذيلة والتفسخ والحريات المطلقة التي تجلب العار، والذين لم نر من تحديثهم شيئا يذكر، لا صناعة ولا ابتكار ولا تشجيع على ذلك، لا نرى من حداثتهم إلا موازين ومهرجان الضحك.. وهلم جرا من أنواع فساد العقول والفطر.
أما مهرجان العلوم والتكنولوجيا فلم نسمع به يوما في بلادنا، مهرجان المواهب العقلية في الابتكارات لم نحلم به بعدُ، ملتقيات وطنية للتحبيب في القراءة والمطالعة والتشجيع على العلم والمعرفة النافعين الهادفين لا يوجد في المخطط التخريبي للحداثيين، وإن وُجدت ندوات هنا وهنالك، فهي لنشر وترسيخ الحداثة وفق مفهوم غربي؛ من شعر حر إلحادي وقصص غرامية تافهة ومسرحيات فجور وعري وغير ذلك من أنواع الانحلال والهرطقة.
الحداثة تصوير لعقلية الغرب في فلسفته وآدابه المرتبطين بثقافته المنحلة، فإن هم حاربوا المقدسات، فقد حق لهم لأن شياطين الكنيسة خربوا الدين واستعبدوا الناس وسخروهم لخدمتهم وقتلوا العلماء وعذبوهم في السجون بدعوى خروجهم عن الدين، لكن دين الرهبان والقسيسين، فما شأننا نحن وتلك الحداثة التي تريدون إلصاقها بنا عنوة؟
فليعلم هؤلاء الشرذمة القليلة التي لولا دعم الماسونيين لهم منذ الاحتلال إلى الآن، لما قامت لهم قائمة، فليعلموا أن الملتزمين بشرع الله جل في علاه متيقظون واعون ومثقفون، يقرؤون ويطالعون ويبحثون ويعلمون ما لا تعلمون من الأمور الدينية والدنيوية، وهذه الحقيقة تغيظكم وتدفعكم إلى مضاعفة الجهد والزيادة في استغباء القراء المواطنين.
ولكن الله من وراء كل من يتنقص دينه ويزدري بشعائره وينشر الشر في صفوف المسلمين محيط، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والحمد لله رب العالمين.