لا ينبغي أن نختلف في أننا فرّطنا في أداة مهمة من أدوات الإصلاح وتغيير قناعات التطرف والغلو؛ حين أعرضنا عن تفعيل دور الحوار، مع أننا نعلم أهميته من خلال الدلالات الشرعية والتاريخية والمنطقية، وهو ما أكده واقع الدول الشقيقة التي أحسنت توظيفه واستثماره؛ بدءا بمصر، وانتهاء بموريتانيا التي حققت به مكاسب مهمة جدا، مرورا بالسعودية التي وظفته بشكل حضاري إصلاحي شمولي، نال إعجاب كثير من المتتبعين، وقد كان من أبرز ثماره؛ قلب السحر على الساحر، حيث صار بسببه دعاة العنف والإرهاب؛ دعاةً لأصحابهم بالأمس، يعظونهم ويقيمون عليهم الحجة الشرعية، ويحولون دون استقطابهم لضحايا جدد..
إن المبتلى بفكر التطرف مهما كانت درجة تأثره، ومهما بلغ قبح فعاله؛ يبقى بحاجة إلى رحمة الدولة والمجتمع أكثر من غيره، لأن زَلَلَهُ جاء من جهة الشبهة القوية التي يعظم أثرها بسبب تفشي الظلم وإرهاب دول الهيمنة، وكذا بسبب تأصيلات أشباه العلماء التي يوقن المطلع عليها بخطورتها وصعوبة السلامة من تأثيرها السلبي على طالبي الدين والاستقامة..
ومن اطلع على كتابات المسمى بأبي قتادة وأشباهه من غلاة الخوارج المعاصرين علم صدق ما أقول.
لقد احتضنت بريطانيا هذا المجرم، وهيأت له الأجواء ليضل شباب المسلمين بشبهاته الخطيرة، وذلك حين كان يفتي بأن جهاد حكام المسلمين واجب ومقدم على جهاد اليهود والنصارى!
فلما شعرت بتهديده لأمنها سعت لترحيله إلى بلده.
وقد صَدّر من بريطانيا كتبا سامة في تكفير الدول الإسلامية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والمطلع عليها يجزم بضعف أكثر “الملتزمين” عن رد شبهاتها؛ مما يفرض علينا مواقف علمية ومنطقية وموضوعية في تناولنا لملف “التكفريين” المنسوبين أو المنتسبين زورا إلى السلفية؛ فإن أغلبيتهم ضحايا لمثل ذلك الكيد المزدوج. (كان العلامة السلفي محمد ناصر الدين الألباني قد أبدى شكوكه حول “أبي قتادة”، وأنه لا يستبعد كونه عميلا لبعض الأجهزة الاستخباراتية).
وإذا كانت الوزارة المعنية قد أخطأت حين قصّرت في جانب التوعية، ومواجهة فكر التطرف مواجهة شرعية معتدلة، مع اجتناب الوقوع في خطأ مواجهة تطرف التشدد بتطرف الميوعة والتساهل.
وإذا كانت قد أخطأت أيضا حين فرّطت في توظيف الحوار لتنقية أذهان المبتلين بشبهات الغلو والتكفير.
فإنها ستخطأ خطأ آخر إذا ما أهملت مراجعات المعتقلين بشأن ملف الإرهاب، والمعلن عنها بإصدار عبد الوهاب رفيقي -مؤخرا- لوثيقة “أنصفونا”، التي بيّن فيها تراجعه -مع عدد من المعتقلين- عن الأخطاء التي وقعوا فيها، وبراءتهم من العنف والتكفير وفكر الخروج عن ولي الأمر.
وهذا الموقف ينبغي أن يشكر ويشجع، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة ومحمدة، وهو مكسب لمجتمعنا الذي ينشد نعمة الأمن، ويحرص على إسلامه السني المعتدل.
وقد قال الأستاذ عبد الوهاب رفيقي المشهور بأبي حفص -المعتقل بالسجن المحلي بوركايز بفاس-: “المراجعات ضرورة شرعية، وواجب عقلي، وسمو أخلاقي، وبناء إصلاحي، ومشروع نهضوي، مشيرا إلى أنه مشروع علمي فكري إصلاحي، وهو أساس دعوته ومنهجه داخل السجن وخارجه”.
“وأكد في حوار أجرته معه يومية التجديد بأنه لا سبيل لمن أراد تصحيح مساره، وإصلاح مسيرته، إلا بالمراجعة، ومن حرم لذتها فقد حرم خيرا كثيرا، بل هو محجوب بظلمات الغرور والإعجاب بالنفس والاعتداد بحظوظها، وأشار رفيقي إلى أن سنوات السجن الطويلة، هيأت لهم -على شدتها- فرصة الاطلاع الواسع، وقراءة المطولات والأصول، وما صاحب ذلك من مناقشات علمية مع المشايخ وطلبة العلم، وسمح له ذلك بإعادة النظر والمراجعة.
وحدد أبو حفص معالم مبادرة الحوار والمصالحة التي يعتزم هو ومن معه إطلاقها لإعادة النظر في ملف المعتقلين على خلفية العمليات الإرهابية التي تعرض لها المغرب، وتساءل عن الجمود الذي يسيطر على هذا الملف، مشيرا إلى بعض الجهات التي تحاول إقباره، بسبب تقصير كثير من الفعاليات العلمية والسياسية والفكرية والثقافية في طرحه وتحريكه، مع معرفتهم التامة بوجود الأبرياء ومن يستحق العودة إلى أهله وأبنائه…”اهـ.
إن الأسباب والوسائل المولدة لفكر التطرف والمغذية له قائمة ومتعددة، ولن تفلح الدولة في مواجهتها بالمقاربة الأمنية فحسب، أو بمحاولة الإقناع بنموذج معين من التدين والزعم أنه الصورة المثالية للاعتدال والتوسط.
وإنما يكون التغلب عليها بتوسعة دائرة الخطاب المندد بالتطرف والغلو والحرص على تنويع أصحابه، وعدم حصرهم في صنف معين من العلماء أو الدعاة.
ومن أهم ذلك؛ فسح المجال للذين تراجعوا عن أفكار الغلو والتطرف ليقنعوا الآخرين، وليشكلوا حاجزا أمام تفشي تلك الأفكار؛ ولذلك ندعو إلى:
1- تثمين الدولة لهذه الخطوة الشجاعة والإصلاحية.
2- وضع مسطرة عاجلة للإفراج عن أصحاب التراجعات.
3- وضع مخطط وصرف ميزانية لإدماجهم في المجتمع، وتعويض الأبرياء.
4- إشراكهم في المواجهة الفكرية لانتشار التطرف.
إن الدولة الحكيمة الرحيمة هي التي تحرص على الشفقة برعاياها، لا سيما ضحايا الأفكار المنحرفة، وهو سلوك ينسجم مع آداب ديننا وتوجيهات القرآن والسنة؛ قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت/34-36]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك و تعالى؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” [رواه أحمد وصححه الألباني].
هذا؛ وقد أشارت بعض الجهات إلى احتمال تدخل أمير المؤمنين -وفقه الله لكل خير- في هذا الملف، لتفعيل خُلق العفو واستثمار هذه الفرصة لصالح المجتمع، خصوصا أنه سبق له أن صرح بحدوث تجاوزات في هذا الملف.
وأرى من المهم أن أشير في هذا السياق؛ إلى الموقف العجيب لبعض العلمانيين الحاقدين، الذين عبروا عن رفضهم لبادرة الحوار مع هؤلاء، مع أنهم لا يفتئون يدعون إلى الحوار والتسامح مع الكفار وأعداء الملة والدين!
وأخشى ما أخشاه أن يكون موقف الإعراض عن فتح باب الحوار متأثرا بدعوة هؤلاء، الذين يرون مصلحتهم في بقاء التدين المغربي متأرجحا بين تطرف الغلو وتطرف الميوعة؛ لأنهم يعلمون أن انتشار إسلام الوسطية والاعتدال يهدد مشروع علمنة البلاد..