التربية السياسية ننشُد منها تربية جيلاً للنصر المنشود في صورة رجال دولة يتربون على عقيدة هذا الدين ومنهجه، ويحملون هَمَّ الإسلام، ويقومون على بناء كيان حاكم بمرجعية إسلامية أساسها الكتاب والسنة.
فتربية رجل الدولة المسلم تختلف عن التربية السياسية المشتركة الموجهة لعامة الشعب التي تُشارك جميع الأيدلوجيات والتوجهات تحت مرجعية “تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم”.
التربية السياسية في الإسلام تبدأ من سن الطفولة بتعريف الطفل شمولية هذا الدين وكيف كان النبي يُرسل السفراء إلى الملوك، كما كان يُعلم الأخلاق، ويزرع الفضائل، ويقود الجيوش، نُعلمهم كيف تم اختيار أبا بكر خليفة، وما حدث من بيعةٍ مثّلت طريقةً سياسيةً لاختيار الحاكم لأول مرة في شبه الجزيرة العربية.
وما فعله مُربي السلطان محمد الفاتح معه واسمه “محمد بن حمزة الروحي” كرَّس تربيته للسلطان على أُسس سياسية إسلامية؛ لأن التربية الإيمانية وحدها لن تصنع جيلاً فاتحاً لهذا الدين، حيث ربى السلطان منذ صغره على أنه هو المعني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم “لَتُفْتَحَنَ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”؛ وعليها كَبُرَ السلطان الصغير، ولا شاغل له إلا الإعداد لفتح القسطنطينية، ولقد تم إعداد القائد منذ الصغر ليكون رجل دولة، فتعلم الرياضيات، والتاريخ، والفلك، وغيرهم، وأجاد التركية، والفارسية، والعربية، وهو الحافظ لكتاب الله المُتعبِد به .
كما تُعَد الأُسرة، والمسجد، والمدرسة، والجامعة من أهم المؤسسات التي تعمل على تشكيل وتنمية المفاهيم السياسية عند الأطفال والشباب.
كما أحبُ أن أشير إلى أن الحركات الإسلامية لم تنجح نجاحاً مقبولاً في التربية السياسية لصناعة رجال دولة، وظهر هذا جلياً في ظل تولي الإسلاميين عدة دول فشلوا في الحفاظ عليها بدايةً من دولة طالبان وانتهاء بحكم الرئيس مرسي لمصر؛ لأن الحركات الإسلامية تفتقد لرجال تربوا تربيةً سياسية تؤهلهم لقيادة دولة بجميع أطيافها وأيدولوجياتها ودياناتها المتعددة، وعلاقاتها الدولية بتحدياتها المختلفة.
نطمح لتربية سياسية تُفَّرق بين التخطيط لعمل دعوي يُستهدف منه غرس قيمة معينة، وبين التخطيط لعمل تنمية سياسية في اتجاه قضية وطنية بعينها مع استغلال الظواهر والأحداث لخدمة المُستهدف السياسي بما لا يُخالف أخلاق الإسلام ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم.
كما نريد منهجاً للتربية السياسية يحول الخطاب الدعوي لواقع له أهداف وبرامج وآليات تتفق مع فقه العصر وضروريات الواقع، نُعطي مثالاً يراه غيرُنا خطاباً حالماً، ونراه نحن مستقبلاً لهذا الدين، فعندما نقول بأن الإسلام سيسود، وتُفتحُ رومية، وترجع لنا فلسطين كاملة السيادة؛ تنطلق الأبواق العلمانية والليبرالية تُشكك وتُكذب هذا الموعود النبوي الذي لا ينطقُ عن الهوى مما أثار الشك في نفوس فئة من الجماهير المحبة لدينها والمؤمنة بموعود نبيها صلى الله عليه وسلم؛ ويرجع هذا الشك الذي أصاب هذه الجماهير إلى تلك الإخفاقات المتتالية التي أصابت الحركات الإسلامية، مما أدى لفشل مشروعها الإسلامي المُتمثل في نهضة إسلامية..
نريد أن نحول موعود الله ونبيه إلى واقع عملي نحيا به فعندما قال النبي في غزوة الخندق الله أكبر فتحت قصور كسرى، الله أكبر فتحت قصور الروم، كان أمراً بعيداً ومستغرباً ومنكراً من المنافقين فأصحاب النبي لا يستطيع أحدهم أن يخرج ليقضي حاجته خوفاً من العدو والنبي يبشر بالنصر على القوتين العظمتين في العالم وقتها، ولكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حولوا طلب هذا الموعود النبوي إلى واقعٍ عملي، فبنوا دولة قوية الأركان، ونشروا الإسلام، وسيروا الجيوش؛ ليُصبح الخطاب الدعوي من موعودٍ حالم عند البعض إلى دولة عظيمة وخلافة راشدة.
الحركات الإسلامية الوسطية تحتاج لصناعة رجال دولة يقودوا المسيرة السياسية بمرجعيةٍ إسلامية، ولرجال الدولة خصائص أكد الفيلسوف “ماكس فيبر” على أن أهم خصائص رجل الدولة شخصيته القوية التي يفرضها على الجميع، وقوته في إدارة المواقف والمرؤوسين على رأس الهرم الذي يقف عليه، وكيفية صنع قراراته سواء كانت تكتيكية أم استراتيجية، وقدرته في الدفاع عن آرائه من دون أن يخرق القانون العام، أو أن يستخدم أية وسائط غير مشروعة، ربما يناور ولكن بمهارة وذكاء لتحجيم الخصوم، وعدم الالتفات للمارقين والسفهاء.
كما يجب الاعتماد في التربية السياسية (التوعية) على أفكار، ومبادئ سياسية تخدم عملية التنمية السياسية بعيداً عن لغة العواطف، وإثارة المشاعر فهذه لغة رديئة، وبضاعة صلاحيتها سريعة الانتهاء تفسد أمام الأزمات الاقتصادية، أو النظم القمعية.
من أجل ذلك وجب على الأحزاب الإسلامية والجماعات العاملة في العمل الإسلامي أن تفتح الحوار والنقاش وإبداء الآراء..، ولا تستأثر الهيئة العليا فيها باتخاذ القرار، لِنُنَمِي ملكات التحليل والاستنتاج واتخاذ القرار لدى قيادات الصف الثاني والثالث والقواعد؛ مما يؤهل قيادات جُدد ويصنع رجالا قادرين على تَحَمُل مهام الدولة سواء في خندق الحكم أو خندق المعارضة.
كما أنه من الأساسيات لتربية سياسية ناجحة أن نربي أولاً ملكات الفرد الشخصية، وإدارته لذاته، ومقدرته على حل المشكلات الاجتماعية، وتلامسه مع الشارع، وقدرته على التواصل مع الجماهير.
ويعد التدرج في المناصب القيادية السياسية محضنا جيدا لإخراج سياسي محنك قادر على إحداث نقلة سياسية متقدمة نحو الهدف والغاية.
وبجانب هذا التلامس والتطبيق العملي يتم إدخال الفرد في دراسة أكاديمية تَخْدُم تخصصه وقدراته؛ لأن الخبرة والعلم قرناء إذا فقد أحدهما فشل العمل.
نقول: لن تكون الحركات الإسلامية شريكاً قوياً في التنمية السياسية إذا لم تسبقها صناعة جيل يتم تربيته سياسياً، وهذا ما حدث في أوروبا مع أن أوروبا لم تعرف الوعي السياسي إلا في عصور النهضة والتنوير، أما الشرق فكان له سبق في الاستقرار السياسي؛ وذلك نتيجة ظهور الإسلام، وبزوغ فجر الحضارة الإسلامية، وما جاءت به خلافاً لما كان سائداً ومعمولاً به في الجزيرة العربية حيث أن الإسلام لم يرى هذا الفصل بين العبادة والسياسة.
يقول غولدزييهر: (إن الإسلام قد جعل الدين دينوياً، لقد أراد أن يبني حُكماً لهذا العالم بوسائل هذا العالم)، كما ذكر ستول هورغرويغ أن: (الإسلام قد دخل في العالم كدين سياسي).
ونحن نقول الإسلام دين سماوي أنزله الله على نبيه ليُصلح به آخرتنا ودنيانا، فاستقيموا لدينكم ولشريعة ربكم ففيها الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة.