قال: علمني الذهبي…؛ قلت: عن أي ذهبي تتحدث؟! إن كان الإنصاف حلة الأشراف فالتدليس حيلة إبليس! 2/2 أبو البشر توفيق زين الدين الدكالي

أما طوام (الإمام الأكبر والكبريت الأحمر) ابن عربي الذي قال فيه ابن حجر الهيتمي: “أعلم أهل زمانه بحيث إنه كان في كل فن متبوعا لا تابعا”( ) وقال: “رضي الله عنه”( ) فكثيرة ومنها:
قال ابن عربي: “العارف من يرى الحق في كل شيء، بل: في كل شيء، بل: يراه عين كل شيء”( ).
وقال أيضا:
“الرب حق والعبد حق ** ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت ** أو: قلت رب أنى يكلف”( ).
وقال: “فشتان بين مؤلف يقول: حدثني فلان -رحمه الله- عن فلان -رحمه الله- وبين من يقول: حدثني قلبي عن ربي، وإن كان هذا الأخير رفيع القدر، فشتان بينه وبين من يقول: حدثني ربي عن ربي، أي: حدثني ربي عن نفسي” ( ).
لا تستغرب! فالرجل زعم أن كتابه “فصوص الحكم” قد أخذه مناولة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: “أما بعد فإني رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق وبيده كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه، واخرج به إلى الناس ينتفعون به فقلت: “السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا”( ).
وتأمل قوله: “ومن أسمائه الحسنى: “العلي” على مَن؟ وما ثَم إلا هو!! فهو العلي لذاته أو: عن ماذا؟ وما هو إلا هو. فعلوه لنفسه وهو من حيث الموجود عين الموجودات”( ).
أما تعظيم ابن عربي فلم يكن من رجل أو رجلين، فهذا شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270هـ) -صاحب “روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني”- قد طرز تفسيره بثنائه على ابن عربي! ومنه -وهو كثير جدا- قوله: “وقد حرره الشيخ الأكبر قدس سره في “الفتوحات” بما لا مزيد عليه”( ).
وقال عنه أيضا: “ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصا في كتابه “فصوص الحكم”( ).
وقال أيضا: “وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوما عن حماره فرضت رجله فجاؤوا ليحملوه فقال: أمهلوني فأمهلوه يسيرا ثم أذن لهم فحملوه، فقيل له في ذلك فقال: راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة قد ذكر في الفاتحة. وهذا أمر لا تصله عقولنا.”( ).
وقال أيضا: “(…)ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره[!!](…)”( ).
وهذا جمال الدين القاسمي يقول: “وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس الله سره في فتوحاته…”( ).
وقال أيضا: “قال الشيخ الأكبر قدس الله سره في فتوحاته المكية”( ).
وقال أيضا: “وقد سبقه إلى كشف هذه الأسرار الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات المكية”( ).
فلعل تعجبك من اغترار القوم -وغيرهم ممن لم أذكر اختصارا- بابن عربي -وغيره- وكلامه المسموم وما حوته كتبه من زندقة تخف حدته إذا علمت أن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- قد اغتر به حينا من الدهر!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-: “وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه: لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من “الفتوحات”[!] و”الكنة” و”المحكم المربوط” و”الدرة الفاخرة” و”مطالع النجوم” ونحو ذلك. ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع “الفصوص” ونحوه وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ونكشف حقيقة الطريق فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا. فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء: وجب البيان” ( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أيضاً: “وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانا ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم؛ ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال” ( ).
وقال -رحمه الله تعالى- أيضاً: “وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى؛ ولهذا يقولون بالحلول تارة وبالاتحاد أخرى وبالوحدة تارة فإنه مذهب متناقض في نفسه؛ ولهذا يلبسون على من لم يفهمه. فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع كل مسلم ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين. ولكن هؤلاء يشبهون بشيء آخر وهو ما يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر فإنه قد يعرض لأحدهم -لقوة استيلاء الوجد والذكر عليه- من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره فيغيب بمعبوده عن عبادته وبمعروفه عن معرفته وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده.
ومثل هذا قد يعرض لبعض المحبين لبعض المخلوقين كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال له: أنا وقعت؛ فما الذي أوقعك؟ فقال: غبت بك عني. فظننت أنك أني. وينشدون:
رق الزجاج وراقت الخمر *** وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح *** وكأنما قدح ولا خمر
وهذه الحال تعرض لكثير من السالكين وليست حالا لازمة لكل سالك ولا هي أيضا غاية محمودة بل ثبوت العقل والفهم والعلم مع التوحيد باطنا وظاهرا كحال نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أكمل من هذا وأتم” ( ).
ومن أثنى على ابن عربي من أهل العلم فإنما تأول كلامه، إذ لا يتصور وجود مسلم يثني على كلامه بمعانيه الظاهرة التي أشرنا إلى بعضها، لأن تلك المعاني كفر غليظ لا جدال فيه إذ إنها تأتي على المعنى المجمل لكلمة التوحيد “لا إله إلا الله”، فهي مباينة للإسلام وعقيدة التوحيد أشد المباينة.
فلا يكفر كل من توقف في تكفير ابن عربي أو أثنى عليه، وإنما ينظر في سبب توقفه وثنائه؛ أما من يثني على هذه المعاني الكفرية فهذا يلحق به بلا شك، وفرق بين الثناء على الرجل وبين الثناء على وحدة الوجود…
فالمقصود من هذا البسط الوجيز! هو التنبيه على الحقائق الشرعية المترتبة على الثناء على أهل الزيغ بين عوام الناس بكل أشكالهم، ففي هذا فتنة من وجهين، فبعضهم قد يغتر بكلام الثاني على أهل الزيغ لجمال عبارته أو سهولة ألفاظه، والبعض الآخر قد تحمله الحماسة والغيرة على تكفير صاحب الثناء قبل التبين من حدود ثنائه وغاية تقريظه، والإنصاف عزيز، وميزان العدل يلزمنا بالنظر في أحوال الأعيان والتأول للمسلمين، وإن اختلفنا معهم؛ ومن ظن أن التكفير من التقوى وجب عليه أن يعلم أن العدل من التقوى بل هو أقرب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[سورة المائدة:8].
وأما من اتخذ فتنة الناس غاية وامتطى صهوة الإغراب يروم إبهار القطعان الشاردة، ومن يتغذى على ثناء القاصية منها، ويبغي تزييلها عن عموم من يتحسس كلأ المعرفة في فضاءات الأنترنت، ومن يتربص بمن يكرع على صفحات العجائب والغرائب، ومن يستفز مخالفه من أجل التميز أو إيجاد المخالفة، فنسأل الله -سبحانه- أن يهدينا وإياهم وأن يشرح صدورنا للحق، وأن يوفقنا للخير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[سورة سبأ:24].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *