وحيث أراد الحائر أن يضرم النار في الماضي، أضرم النار في نفسه قبل أي شيء آخر. نسي أنّ الماضي راسخ بلا منازع، ليس في “جذر جبل الجليد” من جهازنا النفسي فحسب، بل في: الأرض والزمن قبله. اللاوعي المتخم بالماضي، الأرض المغطاة بنقوش الطبيعة والبشر، الزمن الحامل للمشاعة في أحشائه؛ كلها تحرس الماضي وتنفخ روحه في حياتنا اليومية ببراعة. ومن أراد غير الماضي، فالعزلة منتهاه. عديمَ الأصل سيعيش، أرضا بلا مادة أولية، تاريخا بلا شواهد، نفسا بلا ذاكرة، كذلك سيعيش.
وما أفظع العزلة! ما أفظعها إذ تجعل صاحبها عالة على العامِلِين تحملهم “الأوراد” على العمل! ما أفظعها إذ تقتل صاحبها في صمت مخيف! ما أفظعها إذ ترمي بصاحبها خارج الأرض، وخارج الزمن، وداخل لا وعيه المريض! العزلة قتل مزدوج: للنفس بتدريج، وللفعل التاريخي مرة واحدة. العزلة انتحار تحت أقنعة: “أنا العالَم بأسره”، “أنا المنقذ من الضلال”، “أنا الأنا الأكبر الذي سيقلب العالم بالعقل”… كثيرون يعيشون بهذه الأقنعة، يحبون الحياة ولا ينتحرون تحتها. فمن هؤلاء؟ إنهم “الأنا في جماعة”. الجماعة التي ستنقذ العام بأسره، وفيها الأنا. الجماعة المنقذة من الضلال، الفرقة الناجية، وفيها الأنا. الجماعة التي ستقلب العالم بالطوبى، وفيها الأنا. بهذه الطريقة، وبهذه الطريقة وحدها، ستعيش الأنا تحت “الوهم”، أي شريطة الانتماء لجماعة، لمجتمع، لجمهور، لحركة، ل”قطيع”. وسوى هذه العزلة، تبقى أخرى قاتلة.
دعكَ من الوهم، فإنه يضع قناع الحياة على وجه الموت. دعكَ من قوله: “أنت، وأنت فقط، تحيا بالعزلة، بالقطيعة، بالإيديولوجيا الانقلابية، بنزع الرداء والمشي عاريا في الصحراء”. متى ستفهم قول “مجنون طورينو”؟ متى ستفهم قول صاحب “سنة وإصلاح”؟ متى ستفهم دعوة نديم البيطار؟ متى ستكون قادرا على “لا أدرية الصغار يتعلمون التفكير في كل ظاهرة”؟ ستفهم ذلك وأنت في تمام عافيتك النفسية، وإلا فاترك للزمن أحد الأمرين فيك: فإما أن تبلغ قدرا من النضج تحت سياطه، وإما أن تتيه في أهوائك وأوهامك إلى أن تفقد قواك تحت نفس السياط.
ليس تخليفُ الماضي اختيارا، فيخضعَ لإرادتنا “الحرة”. فالزمن يطوي لاحقُه سابقَه، وما نحن إلا وقودٌ للزمن، وفي شروط الزمن. لا تَخلّص يُعتدّ به إلا في الزمن، وغيره الوهم. إياك أن تنظر إلى مقدّمة الركب، فتحاول اللحاق بها ممتطيا ظهر جوادك الهزيل. إياك أن تهجر “واقعك الملموس” بالتفكير المرضي في “هوة التفاوت”، فتكونَ سببا في تفاوت أكبر وأخطر. إن اعتبار التفاوت لا يعني المرضَ به، كما أنه لا يعني سبّ الذات، فتموتَ بالسبّ واللعن، بدل أن تحيا بالبناء عليها. وكيف يكون البناء عليها؟ يكون: بأن تُخرِج الحي ممّن كاد أن يفقد حياته، بأن تخرج “المقاومة” من أحشاء “التراث”، و”أدلوجة الدولة” من أحشاء “المذهب والقراءة والفرقة والطريقة”، و”النظام” من أحشاء “القوانين الفقهية”، و”المنطق التجريبي” من أحشاء “نقد صاحب الفتاوى للمنطق الأرسطي”، و”جدل التاريخ” من أحشاء “جدل الوجدان”، و”المعيار” من أحشاء “كتاب الرسالة”، و”فكرة اللاوعي” من أحشاء “تأملات الغزّالى”، و”الوعي باللاوعي” من أحشاء “رباعيات المجذوب”… إلخ. هكذا يكون البناء على ذات، وغيره تقهقر في التاريخ، ورجوع إلى الوراء.
وتلك هي المفارقة التي ليس هناك ما هو أغرب منها: أن يعود المرء إلى الوراء، من حيث يريد هو التقدّم إلى الأمام. لا “تقدمية” لمن لم يفهم بأن “الحداثة في التقليد”، وأن “التقليد في الحداثة”. لا “تقدمية” لمن جهِل حقيقة مفادها: “ليس في الواقع إلا الجديد، ولو اتخذ له قناع التقليد”، ف”التقليد” يحوز جِدّته من سياق استدعائه. “التقدمية بنت التاريخ”، وليست بنتا لإرادتنا “الحرة”. هذا ما أغفله لاعنو الماضي، فأصبحوا حراسا في معبده، وهم يحسبون أنهم في “الحداثة” يتنعمون.