المخالفات الشرعية في مقررات اللغة العربية في التعليم الثانوي التأهيلي ج.7 ذ. محمد هرماش

انتهى بنا الحديث في الجزء السادس عند أبيات شعرية يقرر فيها صاحبها مسألة “التسامح” بين الأديان كلها، على نهج الحداثيين؛ الذين لايريدون بهذه الدعوى إلا إهدار الحق، والإمساك عن الدعوة إليه، والرضى بالباطل، بل ومشاركة أهله في الاحتفال به. وهذا كيد ظاهر يلزم منه بالضرورة الانسلاخ عن كل ما يضاد أباطيل الأديان من دين الإسلام.
مقابل هذا الكيد المقصود للإسلام، ينص المقوم الثاني على: الانخراط الإيجابي في الحداثة، أي: بلا نقد ولا مساءلة. وينص أيضا على: ترسيخ ثقافة.. حقوق الإنسان، أي: بمدلولها الغربي الصليبي الذي يصطلح عليه الحداثيون تدليسا: بالمنظومة “الكونية” لحقوق الإنسان. ولهذا تراهم يجيشون نخبهم وجمعياتهم ومثقفيهم لإكراه الحكومات على التخلى عن الخصوصيات الإسلامية، وإلغاء كل التحفظات التي وضعتها عند توقيع الاتفاقيات والمعاهدات ذات الصلة بالموضوع، وتغيير أحكام الإرث والزواج… وغيرها مما لايزال معمولا به في قوانين البلاد.
وتقرأ في المقوم الثالث: ((حفظ التراث… بتنوع روافده والعمل على تجديده)) ولو سألت الحداثيين عن دوافع تجديد التراث، لكان جوابهم حاسما وبلا خلاف هو: الاستجابة لمتطلبات الحداثة، أي: أن التراث يجب إخضاعه لها؛ فيُلفظ كل ما لا يستجيب لشروطها، فتحرف نصوص الوحيين لأجل ذلك.
ثم ما هذا التراث الذي يعنونه؟ وما روافده المتنوعة؟… إذا كانت عقيدة التوحيد السلفية، وأحكام الشريعة مرفوضة بمقاييس الحداثة، فلم يبق من التراث إلا الرقص الشعبي، وخرافات الصوفية، وأباطيل الشيعة… ومن على شاكلتهم ممن انحرف عن الصراط المستقيم، وهدي سيد المرسلين عليه من ربه الصلاة والسلام.
ومن عجيب ما أنت راءٍ بعدُ، من هؤلاء الحداثيين الذين رفعوا راية الإلحاد، وزعموا القطيعة مع الدين… ثم يعكفون على أقاويل أهل التصوف، ويحتفون بها ويبهجرون الكلام في التعجِيب منها، ويعدونها من فتوح الفهم وبديع القول… كهذا الذي تقرؤه مع دهقان القوم: أدونيس، في قوله عن النفّري الصوفي، (الشعرية العربية، ص.70): ((يعطي النفري للدين بعدا ذاتيا، وهو في ذلك يؤسس نظرة معرفية أخرى تغاير النظرة الدينية التقليدية. وهو في فهمه النص القرآني، بطريقته التأويلية، يحدث انقلابا في النظرة إليه. إنه في الحالين ينقلنا من الظاهر إلى الباطن. من المعرفة العقلية إلى المعرفة الذوقية. وهو إذ يؤكد التجربة الذاتية، يلغي النموذجية. فلا نموذج للنص النفري. أنه نص-أصل … هكذا يبدي النص النفري قطيعة كاملة مع الموروث في مختلف أشكال تجلياته)).
والنموذج الموروث الذي تتحتم القطيعة معه -في اصطلاح- هو أصول الإسلام وقواعد الشريعة. وأكثر ما يحتفي به الحداثيون من أضاليل المتصوفة هو: عقائد الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، التى أجمع أهل السنة على تكفيير منتحليها، يقول أدونيس، (ص. 72): ((هكذا يضعنا نص النفري في عالم فريد من التوهج والغبطة. بل إنه النص -الغبطة… إنه نص يلغي المسافة بين الإنسان والمقدس؛ إنه أنسنة المقدس، وتقديس للإنسان)). وأنسنة المقدس، وتقيس الإنسان، هو عين ما يعرف عند الحداثيين بمركزية الإنسان في الكون، وعند المتصوفة بالحلول والاتحاد، وبه صرح أدونيس في شعريته (ص)) (86..إن الحركة الصوفية فصلت بين الظاهر والباطن أو بين الشريعة والحقيقة، مؤكدة على أن المعارف والحقائق تنبثق من الباطن، و..قالت بإمكان حصول نوع من الوحدة أو الاتحاد بين الله والكون، وبين الله والإنسان)).
هذا هو التراث الذي تريد الحداثة الحفاظ عليه، هو تراث الفرق الصادة عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الزائغة عن سنته الشريفة، وتراث أمم الجاهلية التي قبل الإسلام.
ومن الكفايات المستهدفة من إقرار هذا البرنامج في السنة الختامية في الثانوية التأهيلية، والتي نصت عليها “التوجيهات التربوية” (ص.41): ((تعرف مسار تطور الشعر العربي الحديث)) .
ـ فهل كان التيار الحداثي آخر التيارت الأدبية في مسيرة تطور هذا الشعر، فيكون الوقوف عنده في البرنامج الدراسي مقبولا مستساغا؟
الجواب القاطع (لا)، بدليل التاريخ والواقع؛ فلم تك الحداثة/العلمانية سوى موجة عاتية هائجة من زبد الإلحاد، اجتاحت أرض الإسلام في غفلة من أهله، فاعتنقها غثاء من شبابه المغرّرين، المغمورين بحب الظهور، المحرومين من نور الوحي وعلم النبوة… لكن ما أسرع ما تكسرت هذه الموجوة على شاطئ الإسلام الثابت؛ ثبات الطود العظيم، فذهب زبدها جفاء، وتبدد الغثاء مع نسيم الهداية، الذي لم يزل يسري في أفئدة أهل الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، مذ بعث الله النبي الخاتم -صلوات ربي عليه وسلامه- رحمة للعالمين.. فأنبت الله ما ينفع الناس؛ جيلا من الشباب المؤمن، الذي عاد بالأدب العربي إلى معدنه الأصيل، الذي ما انفك عنه حتى في الجاهلية الأولى؛ فأكثر شعر الجاهليين يصدق عليه ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ابن أبي الصلت: ((آمن شعره…)). (أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأورده الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة: 1546). فكان هذا العود الأحمد إيذانا بانبعاث الاتجاه الإسلامي في الأدب العربي الحديث.
ولئن كانت الغاية هي تعريف تلميذ الثانوي التأهيلي تاريخ الأدب العربي الحديث، وتحولاته الفكرية، واتجاهات شعرائه إلى يوم الناس هذا، فلم تجاهل القائمون على البرنامج الدراسي هذا “الاتجاه الإسلامي” الناشئ في الشعر العربي، بعد انحسار الحداثة وخفوت جعجعتها الرعناء؟ مع أن تقسيم محاور الدورة الأولى يستجيب منطقيا لإدراج تيار رابع؛ فتكون القسمة عادلة بينها: التياران الأولان في المجزوءة الأولى؛ (إحياء النموذج) أي: البعث والإحياء، و(سؤال الذات) أي: الرومنسية. ومنطق البحث العلمي المنصف، المتجرد من الهوى يقتضي أن تقسم المجزوءة الثانية بين التيارين: الحداثي ثم الإسلامي، تبعا للتطور التاريخي للأدب العربي المعاصر.. غير أن القائمين على هذا البرنامج الدراسي اختاروا أن يفسحوا المجال للتيار الحداثي ليبدو أكبر من حجمه، فيتوهم المتعلم أنه نهاية مسار التطور أو “نهاية التاريخ”. هكذا سيقت الحداثة في مظهر “الحق” الذي تنتهي إليه طبائع الأشياء ولا يستساغ خلافه.
وتثبيتا لهذا الوهم في ذهن المتلقي حرص الكُتاب الحداثيون على رمي الاتجاهين الأولين بالفشل، والعجز عن مواكبة قضايا العصر، والحق أن هذا كان يصدق إلى حد بعيد على الرومنسية؛ فإنها كانت تحمل بذور موتها في ذاتها، لذلك خبت جذوتها سريعا، ومرد ذلك في نظري إلى أمرين؛ أولهما: غربتها عن الثقافة العربية، ومباينتها للحياة الإسلامية. وآخرهما: أن واقع العرب حينئذ كان يستدعي حشد الهمم في قضايا الأمة وهي تصاول الغزاة الصليبين، وليس الانكفاء على الذات، والنفرة عن حياة الناس إلى حياة الغاب، تقليدا للرومنسية الأوربية.
فما شأن التيار الإحيائي؟ هذا ما نعرفه في العدد القادم بحول الله وقوته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *