نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-
وأما الثاني فهو الباحث محمد عابد الجابري فإنه ذكر أن مصطلح الظاهر والباطن عند ابن رشد لا (علاقة له بمعناهما عند الشيعة والمتصوفة والعرفانيين عموما)، نعم لم يكن ابن رشد من باطنية الشيعة والصوفية، لكنه كان من باطنية الفلاسفة، والمعنى التأويلي الباطني واحد عند الصوفية والفلاسفة معا، سواء تعلق بالعلميات أو بالعمليات، ومعناه: تأويل المعنى الظاهر من النص إلى معنى آخر باطني مُخالف له. وهذه عملية تحريفية للنص الشرعي، يُمارسها الباطنيون كلهم، من فلاسفة وصوفية، سواء اُعتمد فيها الفكر والعقل، أو العاطفة والقلب، أو جُمع فيها كل ذلك، فالنتيجة واحدة، وهي أنها عملية تحريفية للنص الشرعي. وعليه فإن ابن رشد لا يختلف عن غيره من الباطنيين في استخدامه للتأويل الباطني التحريفي للنصوص الشرعية.
وأما ثالث هؤلاء، فهي الباحثة زينب محمد الخضيري، قالت: إن ابن رشد حاول التوفيق بين الدين والفلسفة بالاعتماد على التأويل الذي ما هو إلا فرض النظرة العقلية على الدين. وقولها هذا لا يصح، لأن التأويل الرشدي هو تأويل باطني تحريفي يفتقد إلى المعيار الموضوعي الشرعي واللغوي والعقلي الذي يضبطه ويوجهه ويُمحصه، فهو مخالف للشرع واللغة والعقل. فهذا التأويل لا يصح وصفه بأنه فرض النظرة العقلية للدين، إنه ليس كذلك، إنه تلاعب بالنصوص وتحريف لها، وافتراء على العقل. وأصحابه يصدق عليهم قوله تعالى: (ِإن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ) سورة النجم:23.
وآخرهم -أي الرابع- هو الباحث محمد عاطف العراقي، قال: إن ابن رشد أوّل الآيات القرآنية على أساس العقل، وتأويله هو اجتهاد في فهم النص. وقوله هذا لا يصح أيضا لأن ابن رشد لم يُقم تأويله على الشرع الحكيم، ولا على العقل الصريح، وإنما أقامه على أساس الفلسفة الأرسطية المشائية الظنية المليئة بالأخطاء والانحرافات المنهجية. وتأويله هذا حاله ومنطلقه لا يصح أن يُوصف بأنه تأويل عقلي اجتهادي في فهم النص. لأن الاجتهاد الصحيح في فهم النص لا يتم بالاعتماد على منهجه المشائي الباطل العقيم، وإنما يتم بإتباع المنهج الشرعي المبني على النقل الصحيح، والعقل الصريح، والعلم الصحيح. وأما اجتهاده المزعوم فهو اجتهاد في تحريف الشرع وإخضاعه للفلسفة الأرسطية المشائية.
وختاما لهذا الفصل يتبين منه أن ابن رشد الحفيد -في تأويله للشريعة- تبنى تأويلا تحريفيا مخالفا للشرع واللغة العربية الموافقة له، أخذه من المتكلمين والفلاسفة الذين سبقوه، ولم يأخذ مفهومه من الشرع واللغة الموافقة له. فجاء تأويله تأويلا باطنيا مشائيا أدى إلى تحريف معنى النص الظاهر إلى معنى خلاف ظاهره الصحيح، من دون أن يكون له في ذلك دليل صحيح من الشرع ولا من العقل.
وتبين أيضا أن ابن رشد طعن في الشرع عندما زعم أن فيه نصوصا متعارضة ظاهرها كفر يجب تأويله خلاف معناه الظاهر، إلى معنى باطن يجب إخفاؤه عن الجمهور لأنه كفر. وبهذا المفهوم التحريفي تسلط ابن رشد على تلك النصوص التي زعم أنها متعارضة، مخالفا بذلك الشرع والعقل معا، اللذان يشهدان بأنه لا يمكن أن يكون دين الله المحكمة آيات نصوصه متعارضة.
واتضح أيضا أنه -أي ابن رشد- أظهر القول بتعدد الحقيقة لغاية في نفسه، مكنه من اتخاذ موقف مريح في تعامله مع خُصومه المعارضين له في اشتغاله بالفلسفة اليونانية من جهة. ومكنه من اتخاذ موقف مريح له أيضا في تعامله مع الشرع من جهة أخرى. مع أن موقفه الحقيقي هو القول بالحقيقة الواحدة، القائمة على الفلسفة الأرسطية كمرجع أساسي لفكره وحَكَم عليه، فما وافقها قبله، وما خالفها رفضه، وإن كان من الشرع وخالفها فيُؤوّله، أو يُغفله ويسكت عنه. وبهذه الطريقة جنى ابن رشد على النقل الصحيح، والعقل الصريح، والعلم الصحيح، وهذا أمر سيتأكد أكثر وبقوة في المقالات الآتية، إن شاء الله تعالى.