تتمة اسم الله السميع: ومن آثار الإيمان باسم الله تعالى “السميع”

ما يتعلق بالسماع، وذكر بعض الأدلة على تحريم الغناء بالآلات والألحان:

عقد شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الماتع “مدارج السالكين” فصلا قيما حول السماع، ولأهميته وعلاقته باسم السميع فقد رأيت أن أختم به هذه الحلقات، مجتزء منه بعض الفقرات على سبيل الاختصار، وبعده أذكر نفسي وإخواني ببعض الأدلة على تحريم نوع من أنواع هذا السماع ألا وهو الغناء من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا أقوال ورثته من العلماء.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السماع
وهو اسم مصدر كالنبات وقد أمر الله به في كتابه وأثنى على أهله وأخبر أن البشرى لهم، فقال تعالى: “واتقوا الله واسمعوا” المائدة:108 وقال: “واسمعوا وأطيعوا” التغابن: 16، وقال: “ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم” النساء: 46، وقال: “فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب” الزمر: 1718.
..وجعل الإسماع منه والسماع منهم دليلا على علم الخير فيهم وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم، فقال: “ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون” الأنفال: 23
وأخبر عن أعدائه: أنهم هجروا السماع ونهوا عنه فقال: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} فصلت:26، فالسماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلمه وكم في القرآن من قوله: “أفلا يسمعون”..
فالسماع أصل العقل وأساس الإيمان الذي انبنى عليه وهو رائده وجليسه ووزيره، ولكن الشأن كل الشأن في المسموع وفيه وقع خبط الناس واختلافهم وغلط منهم من غلط وحقيقة السماع تنبيه القلب على معاني المسموع وتحريكه عنها: طلبا وهربا وحبا وبغضا فهو حاد يحدو بكل أحد إلى وطنه ومألفه.
وأصحاب السماع منهم: من يسمع بطبعه ونفسه وهواه. فهذا حظه من مسموعه: ما وافق طبعه.
ومنهم: من يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله، فهذا يفتح له من المسموع بحسب استعداده وقوته ومادته.
ومنهم: من يسمع بالله لا يسمع بغيره، كما في الحديث الإلهي الصحيح: فبي يسمع وبي يبصر وهذا أعلى سماعا وأصح من كل أحد.
والكلام في السماع مدحا وذما يحتاج فيه إلى معرفة:
– صورة المسموع وحقيقته.
– وسببه الباعث عليه.
– وثمرته وغايته.
فبهذه الفصول الثلاثة يتحرر أمر السماع ويتميز النافع منه والضار والحق والباطل والممدوح والمذموم. فأما المسموع فعلى ثلاثة أضرب:
أحدها: مسموع يحبه الله ويرضاه وأمر به عباده وأثنى على أهله ورضي عنهم به.
الثاني: مسموع يبغضه ويكرهه ونهى عنه ومدح المعرضين عنه.
الثالث: مسموع مباح مأذون فيه لا يحبه ولا يبغضه ولا مدح صاحبه ولا ذمه فحكمه حكم سائر المباحات..
فأما النوع الأول فهو السماع الذي مدحه الله في كتابه، وأمر به وأثنى على أصحابه، وذم المعرضين عنه ولعنهم، وجعلهم أضل من الأنعام سبيلا، وهم القائلون في النار “لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير”، وهو سماع آياته المتلوة التي أنزلها على رسوله، فهذا السماع أساس الإيمان الذي يقوم عليه بناؤه، وهو على ثلاثة أنواع:
– سماع إدراك بحاسة الأذن.
– وسماع فهم وعقل.
– وسماع فهم وإجابة وقبول، والثلاثة في القرآن.
فأما سماع الإدراك ففي قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن قولهم” إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به” وقوله: “ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى” الآية، فهذا سماع إدراك اتصل به الإيمان والإجابة.
وأما سماع الفهم فهو المنفي عن أهل الإعراض والغفلة، بقوله تعالى فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء، وقوله تعالى:” ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون” أي لو علم الله في هؤلاء الكفار قبولا وانقيادا لأفهمهم، وإلا فهم قد سمعوا سمع الإدراك ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموا..
وأما سماع القبول والإجابة ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين أنهم قالوا سمعنا وأطعنا فإن هذا سمع قبول وإجابة مثمر للطاعة.
وأما سماع القبول والإجابة ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين أنهم قالوا سمعنا وأطعنا فإن هذا سمع قبول وإجابة مثمر للطاعة.
والتحقيق: أنه متضمن للأنواع الثلاثة، وأنهم أخبروا بأنهم أدركوا المسموع وفهموه، واستجابوا له.
المقصود أن سماع خاصة الخاصة المقربين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة: إدراكا وفهما، وتدبرا، وإجابة. وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه فهو هذا السماع.
وهو سماع الآيات، لا سماع الأبيات، وسماع القرآن، لا سماع مزامير الشيطان..
القسم الثاني من السماع:
ما يبغضه الله ويكرهه، ويمدح المعرض عنه، وهو سماع كل ما يضر العبد في قلبه ودينه، كسماع الباطل كله، إلا إذا تضمن رده وإبطاله والاعتبار به وقصد أن يعلم به حسن ضده، فإن الضد يظهر حسنه الضد..
كسماع اللغو الذي مدح التاركين لسماعه، والمعرضين عنه بقوله: “وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه”، وقوله: “وإذا مروا باللغو مروا كراما”.
قال محمد ابن الحنفية: هو الغناء، وقال الحسن أو غيره: أكرموا نفوسهم عن سماعه.
قال ابن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وهذا كلام عارف بأثر الغناء وثمرته، فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، ولو عرف حقيقة النفاق وغايته لأبصره في قلبه، فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى.
وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبرمهم به، وصياحهم بالقارئ إذا طول عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرؤه، فلا تتحرك ولا تطرب، ولا تهيج منها بواعث الطلب، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله، كيف تخشع منهم الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع البكاء والوجد، والحركة الظاهرة والباطنة، والسماحة بالأثمان والثياب، وطيب السهر، وتمني طول الليل، فإن لم يكن هذا نفاقا فهو آخية النفاق وأساسه.

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة     لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا     والله ما رقصوا من أجل الله

دف ومزمار ونغمة شاهد     فمتى شهدت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا     تقييده بأوامر ونواهي

وعليهم خف الغنا لما رأوا     إطلاقه في اللهو دون مناهي

يا فرقة ما ضر دين محمد     وجنى عليه ومله إلا هي

سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى     زجرا وتخويفا بفعل مناهي

ورأوه أعظم قاطع للنفس عن     شهواتها يا ويحها المتناهي

وأتى السماع موافقا أغراضها     فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه([1]).

—————————————————–

([1])- مدراج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين:1/481-487.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *