يأتي رمضان شهر الله المبارك بعد شهور نصبح فيها مثقلين بالخطايا والآثام، تخطفتنا الأهواء وتملكتنا الشهوات وأصبحنا أسرى للفتن والمغريات، ثم يأتي المطهر ليفك عنا الأغلال ويكسر القيود ويحررنا من أنفسنا الأمارة بالسوء، ويمنحنا القوة في مواجهة أهوائها وكبح جماحها، ورد عدوانها، فتصير لنا الغلبة المطلقة على هذه النفس التي صارت هي الحكم على أفعال العباد فصدتهم عن صراط الله المستقيم، واجتالتهم كما الشياطين عن الخضوع للواحد الاحد، طاعة وعبادة واستسلاما وانقيادا.
إن المتأمل في واقع أكثر المسلمين يجدهم وهم المساكين –شفقة- قد أصبحوا عبيدا لأهوائهم وشهواتهم، وصارت النفس وملذاتها وأوامرها مقدمة على أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصبحت مخالفة الشريعة أمرا سائغا، وتصرفا أريحيا، والاستجابة لأهواء النفس سلوكا ساريا، واختيارا لدا كثير من المسلمين دون الشعور بأدنى حرج وتأنيب. يأكلون ما تهوى الأنفس ويشربون وفق أهوائهم، ويلبسون وفق غرائزهم ويفرحون ويتعاملون بما يلبي رغباتهم، وإن حدِّث أحدهم عن مخالفته لمقتضى شريعة الإسلام التي رضي بها دينا هز كتفا، أو طوى كشحا، ولم يعبء بذلك ولا رفع به رأسا.
لكن عندما يأتي رمضان، يعيش جل المسلمين حالة من التحرر من سلطة النفس وسطوتها، فيمتنع الناس عن الشهوات المباحة والمحرمة، فيمتنعون عن الأكل والشرب والجماع، ما كان منه حلالا أو حراما، ويفعلون ذلك بكامل إرادتهم دون أن يلزمهم أحد، أو خوفا من أحد، رغم ما يتملكهم من رغبة في الأكل والشرب وإتيان ما حرم عليهم، وذلك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بل يتحرزون حتى من أشياء لا بأس بفعلها في رمضان خوفا من إفساد صيامهم على ما تقرر في عادات الناس وتداولوه على أنه من دين الله، كقص الأظافر مثلا.
وهذا هو عين التحكم في النفس وشهواتها رغم أنها تؤز صاحبها أزا إلى الأكل والشرب وغير ذلك، وربما يكون الإنسان شديد الجوع شديد العطش منهك القوى، لكنها يواجه نفسه بالرفض والممانعة، تماما كما يفعل المدخن حين يمنعها عن التدخين وهو في أصعب الظروف الداعية إلى التدخين، وكذا صاحب المخدرات والسكير، وكذا مدمنو الأغاني -بعضهم بطبيعة الحال-، وكما يلجم كثير من الناس أنفسهم عن الغيبة والنميمة وكلام الفحش والغش وهلم جرا. ويستثنى من هؤلاء الذين صاروا عند النفس وأهوائها كالميت بين يدي مغسله، فهؤلاء لا طاقة لهم بمخالفة النفس وغرائزها المحرمة لا في رمضان ولا في غيره. وتلك علامة الحرمان نسأل الله العافية.
إن مصير المسلم يوم القيامة مرتبط بموقفه مع اهواء نفسه، فالجنة متوقفة على ترك أهواء النفس وشهواتها المحرمة، والنار مصير مرتبط بالركون إلى أهواء النفس وملذاتها، وهذا ما يؤكده القرآن في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
إن الفوز بالجنة تجارة مع الله، من أرادها فعليه بيع نفسه لله، قال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ)، وبيعها حملها على طاعة الله ومنعها من أهوائها وشهواتها، ورمضان جاء من أجل كبح جماح الأهواء، وكبحها لا يكون إلا بمجاهدة ومصابرة، وتضحية بملذات الحياة.
فمن لم يستفد هذه المعاني من صيامه، وتحقق بها بعد انتهائه فقذ ضيع الفرصة وأزرى بنفسه وأرودها موارد الهلكة.