عندما تعترف أكبر سلطة بالبلاد بإفلاس الأحزاب السياسيّة نكون أمام كارثة بكل المقاييس.
وعندما يقتنع الجميع حكاما ومحكومين في بلادي بانهيار نظام التعليم، يكون المستقبل في وطني أشبه بالعذاب الأليم.
وعندما تهاجر 17 ألف امرأة من أمهاتنا وبناتنا قصد البحث عن لقمة العيش في ظروف كظروف العبودية والرق، ويستمر هذا لسنوات، نكون في وطن منزوع الكرامة.
وعندما يلجأ المرضى في بلادي إلى مستشفى العاصمة فتعطى لهم مواعيد الكشف بالأشعة على بعد 3 أشهر وستة أشهر نكون في بلادٍ الموت والحياة فيها سيان.
عندما نكون في بلاد لها واجهتان بحريتان ومناجم غنية متنوعة وأرض فلاحية مترامية الأطراف و4 ملايين ونصف المليون من المهاجر يمدون الخزينة بالعملة الصعبة، وثروة شبابية قوية، بالإضافة إلى مناخ متميز للعمل ثم نعاني من الإفلاس في كل القطاعات ومن الدين الخارجي المزمن المتراكم، والبطالة والفقر والأمية والتخلف والجهل والدعارة وانتشار الجريمة والخمور والمخدرات، عندما نكون في بلاد هذه حالها، يصبح الإحباط واليأس شعورا جماعيا يوحد بين مختلف شرائح المجتمع ويكون الغد مؤذنا بالخراب.
وتصبح الاحتجاجات تتناسل بسرعة، والمظاهرات يتكاثر عددها، ويصبح الأفق أكثر انسدادا، فلا يجد الحوار أرضية ينطلق منها، عندها تهيمن مشاعر الحقد والكراهية بين طبقات المجتمع، وترتبك الدولة ويحار حكماؤها ليصير الهاجس الأمني مستحكما في سياسات تدبير الأزمة، فطبيعي عندها أن نرى الأحكام القضائية الجزافية في حق المتظاهرين تصل إلى 300 سنة موزعة على شباب الحراك الريفي، و3 سنوات للزميل المهداوي، ومحاكمة هي أم المهازل لمدير أكبر جريدة يومية.
ألا يعلم من يشخص مصلحة النظام في بلادنا أن الوضعية الخطيرة التي نعيشها لا تزيدها المقاربة الأمنية سوى استفحالا؟؟
إنها وضعيةٌ مستعصية على الحلول المستعجلة المرتجلة، لأن الفساد متجذر في مختلف الدوائر المُشَكِّلة للدولة في المغرب، سواء في ذلك الحكم أم الشعب، فالفساد بنيوي مترابط يحكم كل الدوائر السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية.
فكيف، والحالة هذه، يمكن للمقاربة الأمنية -التي عادة ما تفرض التدخل في الأحكام القضائية من أجل إنجاح المقاربة، والحد من توسع نطاق الاحتجاجات وردع الجماهير البائسة- أن تحل المشكل؟؟
ومن المسؤول عن هذه الوضعية المتأزمة؟؟
المسؤول الأول هو من أفسد المجال السياسي، هو من اغتال الزعامات بالقتل المعنوي، هو من يريد أن يتحكم في كل شيء، من يريد أن يوجه حركة الشعوب نحو اللاأمل، هو من يمنع المصلحين من أن يباشروا عملية الإصلاح في جسم الأمة، هو من اغتال الحلم بغد أفضل.
إن هذه المظاهرات الاحتجاجية الكثيرة والمختلفة، وتلكم المقاطعة التي أثرت على شركات كبرى وتهدد استمرارية وجودها، هي سلوك اجتماعي ينبئ بفقدان الصبر عند المواطنين، ويدل دلالة واضحة على أن المغرب على فوهة بركان.
قد يكون الإصلاح في المغرب ضربا من الخيال لكِبر المطالب وتنوعها بعد تراكم الفساد في جنبات الأرض كلها، لكنه ليس مستحيلا، فكل أمر واقع لا بد أن يسبقه التخيل.
إننا في المغرب من أجل بدء الإصلاح نحتاج إلى ما يشبه المعجزة، ففي غياب قادة حقيقيين يمثلون الشعب، ويَصْدرون عن هويته ويشعرون بآلامه، ويدركون آماله، وفِي غياب مؤسسات لها مصداقيتها لدى الشعب، وفِي وجود هذا الفساد العميق المتجذر، نحتاج إلى عملية إصلاح هي أقرب إلى معاني الثورة الهادئة البيضاء، تقوم بها الطبقة العليا للحكم على بنيتها السفلية التي تقف عليها وتحكم من خلالها، وتمدها بالنخب التي تدير المؤسسات والصناديق وتقوم بتدبير شؤون حكومة الظل.
فإذا كانت الملكية يمثلها تاريخيا ما اصطلح على تسميته بالمخزن، فإن البنية السفلية التي أومأت إليها، تتكون من العائلات المخزنية المعروفة والتي تتوارث المناصب والمسؤوليات والثروات، كما تتكون من أرباب الأموال الذين اغتنوا في سياق تاريخي ملتبس، سياق الظلم والقهر والاستبداد الذي طبع مغرب ما بعد الاستقلال.
هذه البنية تستحوذ على السلطة والمال وهي اليوم أس الفساد وأساسه، فمع بقائها لا يمكن لأي إصلاح أن ينزل إلى أرض الواقع، لأن الإصلاح في نظرها يهدد مصالحها وثرواتها، ويضعف نفوذها ويحد من سلطتها، التي تستمدها من قربها من الطبقة العليا للحكم/”الملكية” بما تمثله هذه الأخيرة من قوة ونفوذ وصلاحيات دستورية وتاريخية.
ففي ظل واقع كالذي نعيشه لا معنى للحديث عن أي خطة إصلاح حتى يعاد النظر في هذه البنية التي أصبحت متغولة توشك أن تبتلع الوطن والشعب والحكم.
صحيح أن النظام في المغرب لا يستطيع أن يحكم البلاد بدونها، لكنه أيضا لن يستطيع أن يضمن استمرار الاستقرار مع فسادها المستشري وإفسادها العريض، خصوصا مع ارتفاع الوعي لدى الإنسان المغربي في ظل آليات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت توفر تداول المعلومات وتتيح التعبئة السريعة المستعصية على الضبط والتحكم.
العجيب أن هذه الطبقة السفلية للحكم جعلتْ من مؤسسات الدولة -حتى المنتخبة منها- أدوات لتثبيت نفوذها وحماية مصالحها، فلم يعد للشعب المغربي مؤسسات تمثله، حتى إن الملك نفسه قام بانتقاد هذه الطبقة قبل أقل من سنة حيث صرح في خطاب موجه للشعب: “وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”.
ونتساءل: إذا كان الأمر قد بلغ إلى هذا الحد، ألا ينبئ هذا بالخطر العظيم الموجب للتدخل المستعجل؟؟
فحقا، لم يبق للشعب شيء يذكر، إذ لم يعد هناك من يمثله ويتحدث باسمه، خصوصا بعد أن تم إبطال دور مؤسسات العلماء، وإضعاف مؤسسات النواب والمستشارين، وتدجين النقابات والأحزاب السياسية، وبعد أن تمت محاصرة الحركات الإسلامية، و أخيرا بعد التحكم السافر في تشكيلة الحكومة العثمانية وتصريف أعمالها؟؟
إن الثورة الهادئة البيضاء على هذه البنية تحتاج أول ما تحتاج إلى إرادة حازمة للإصلاح، يتبعها تفكيك لدوائر الفساد المستحكمة في هذه البنية، وإعادة تركيبها بشكل يتيح لطبقات الشعب إفراز ممثلين حقيقين عنه، ونخبا قوية في مختلف المجالات، تتشكل منهم مؤسسات قوية على المدى المتوسط، على أن يتم اتخاذ إجراءات وقرارات تبعث الثقة في النفوس لتهيئة الأجواء لعملية الإصلاح الواسعة.
إن الإصلاح اليوم في المغرب شرط لاجتناب الوضعية التي تعيشها دول إسلامية شقيقة -أصرت على استضعاف شعوبها-، ويحتاج بقوة إلى الجرأة الكبيرة في اتخاذ القرارات الإصلاحية، التي تضرب على يد الفاسدين، لا إلى توزيع الأحكام بالسجن والتي وصلت العشرين عاما، واجتمعت لتشكل ثلاثة قرون من الحبس في حق من تزعم الحراك وطالب بتغيير الوضعية.
إن هذه الأحكام القضائية لن تخدم القضية، ولن تفتح أبواب الحوار بين الشعب والحُكم؛ بل ستزيد من عمق الهوة وشدة الخلاف.
فمحاكمات الريف تؤذن بوضع سيؤدي الجميعُ فيه الثمن -لا قدر الله- إن لم تُخضع الدولة نفسَها لمِبضع الإصلاح.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب.